كما شمل هذا الاهتمام المؤسسات الدولية وكبار الشركات والبنوك والمؤسسات الاقتصادية.ولعل أهم ما يبرز في هذا النقاش تلك العودة القوية لمفهوم السيادة الوطنية لا فقط في المجال الفكري بل كذلك في مجال السياسات العمومية لتصبح الشغل الشاغل لكل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين .
وقد جاءت هذه العودة والرجوع القوي للسيادة الوطنية للقطع مع ثلاثة عقود من التوافق العام حول نهاية هذا التمشي في ظلال التطور الكبير للعولمة والتي أعلنت عن نهاية حدود الدولة الوطنية ودخول العالم في مرحلة من التقاطع والتعاون تتجاوز الجغرافيا كما حددها صلح وستفالي (Westphalie) في 1648.إلا أن هذا التوافق سرعان ما انهار مع تصاعد وتواتر الأزمات وانعكاساتها على كافة بلدان العالم من جائحة الكوفيد 19 إلى نتائج الحرب الأوكرانية .
فقد أثبتت هذه الأزمات وتصاعد المخاطر الكبرى على هشاشة العالم الذي حاولت بناءه العولمة والتبعية المطلقة التي خلفتها والتي كانت وراء ندرة كبيرة في المواد الأولية والنصف مصنعة خاصة بعد جائحة الكوفيد والحرب في أوكرانيا اليوم .
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم على أغلب المحللين والمسؤولين عن السياسات العمومية يهم العودة القوية لمفهوم السيادة الوطنية والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي على مستوى الدولة الوطنية كبديل للأزمات والمخاطر الكبرى التي تهدد أمن واستقرار الدول.
وقبل محاولة تقديم بعض الأفكار حول هذه التساؤلات الكبرى سنحاول العودة إلى مفهوم السيادة الوطنية وجذورها السياسية والفلسفية .
في مفهوم السيادة الوطنية
قبل أن تكون السيادة الوطنية موقفا سياسيا، هي مفهوم فلسفي تداوله أكبر الفلاسفة منذ القدم من أرسطو إلى هوبس وروس وهيغل وماركس.ويشير هذا المفهوم إلى قدرة الدول على تكريس إرادتها وسيادتها في إطار احترام القانون ومحاولة تحقيق المصلحة العامة والمشتركة لشعوبها وتؤكد اغلب التعريفات لهذا المفهوم على مبدإ هام وهو علوية الإرادة الوطنية على كافة المصالح الأخرى في تحديد الأولويات وبناء السياسات .
وغالبا ما تهتم التعريفات لمسألة السيادة الوطنية بترجمتها على أرض الواقع من خلال مقاييس ومعايير قانونية يجسدها الدستور والذي ويعبر على الإرادة الجماعية وعلويتها عل كل المقاييس الأخرى وخاصة الخارجية منها .
وتؤكد أغلب التعريفات الفلسفية والفكرية على مجالات ترجمة السيادة الوطنية على أرض الواقع والتي تهم الأمن الخارجي من خلال الديبلوماسية والدفاع الوطني والأمن الداخلي والعدل والاقتصاد والمالية .
وقد تم توسيع مجالات تطبيق السيادة الوطنية في المجتمعات الحديثة عن مسائل أخرى كالصحة والتعليم والثقافة وغيرها .
وقد عرفت السيادة الوطنية تعبيرات مختلفة ومتعددة منذ القدم ومنها السيادة الوطنية والسيادة الشعبية وسيادة الأنظمة الملكية .
إن مفهوم السيادة الوطنية ليس بالجديد بل يعود إلى العصور القديمة وقد عرف اهتماما كبيرا من قبل المفكرين والفلاسفة والسياسيين الذين حاولوا على مدى التاريخ إعطاءه تعريفا مرتبطا بتطور المجتمعات وتصورها لمصدر السلطة ومجال تنظيمها وتنظيم أدائها.وقد ركز هذا المفهوم على أهمية الإرادة الوطنية في إدارة الحكم وتنفيذ السياسات والاختيارات الكبرى.
وقد شكلت الدولة الوطنية المجال والإطار الذي سيشهد بروز وتطور السيادة الوطنية التي أصبحت خلال ثلاثة قرون في كنه الثقافة السياسية السائدة على المستوى العالمي .
السيادة والدولة الوطنية
تعود العلاقة القوية بين مفهوم السيادة الوطنية والدولة الوطنية إلى صلح Westphalie و واستفالي في 24 أكتوبر 1648 عند نهاية حرب الثلاثين سنة في أوروبا.
وقد أكد هذا الصلح على مبادئ أساسية شكتل قاعدة السيادة الوطنية ومن ضمنها عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول واحترام قراراتها الداخلية وإرادتها واختياراتها الكبرى.وشكل هذا المفهوم المبدأ الذي سترتكز عليه العلاقات بين الدول على امتداد ثلاث قرون.وقد أعطى ميثاق الأمم المتحدة عند ميلادها سنة 1948 التعبيرة الحديثة لمفهوم السيادة الوطنية حيث اكد على هذا المبدإ ونادي إلى احترامها وعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول.لئن أشار الميثاق إلى بعض الاستثناءات لهذا المبدأ العام الا انه وضع شروطا مقيدة تجعل من الصعب الخروج عن المبدإ .
وكانت السيادة الوطنية القاعدة التي ارتكزت عليها العلاقات الدولية وتنظيم الدول.وقد عملت الدول من خلال هذا المبدأ على الهيمنة والتحكم في كل الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل حدودها الجغرافية .
ففي المجال السياسي تجسد مبدأ السيادة الوطنية من خلال علوية القوانين والتشريعات الداخلية على كل مصادر التشريع الأخرى.كما أن هدف المؤسسات السياسية وبصفة خاصة الأحزاب والمنظمات الجماهيرية كان الدفاع عن المصلحة الوطنية ودعم الدولة في بناء سيادتها وتدعيمها.كما عملت أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية على حماية الأمن الداخلي ودحر المخاطر الخارجية .
كما انخرط المجال الاقتصادي في سردية السيادة الوطنية من خلال سيطرة الدولة على النمو وتنظيمه داخل حدود الدولة الوطنية .وتمت هذه الهيمنة من خلال الاختيارات الاقتصادية والقوانين والتشريعات السائدة في أغلب مجالات النشاط الاقتصادي.فقد سعت القوانين الديوانية على سبيل المثال إلى فرض مراقبة الدولة على المعاملات التجارية الخارجية لحماية الإنتاج الوطنية والتقليص من التوريد.كما سعت قوانين الاستثمار إلى حماية المستثمرين الوطنيين أمام الشركات الأجنبية كما لعبت السياسات النقدية والمالية والبنوك المركزية دورا أساسيا في حماية السيادة الوطنية في المجال الاقتصادي.
لم تقتصر هذه النظرة على المجال السياسي والاقتصادي بل شملت كل المجالات الأخرى للحياة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة من الرياضة إلى الثقافة الى الصحة والتعليم وغيرها .
لقد هيمنت هذه النظرة وفكرة السيادة الوطنية على العالم منذ صلح ويستفالي في القرن السابع عشر واصبحت الإطار العام للعلاقات الدولية وتنظيم السلطة السياسية والنشاط الاقتصادي اثر الثورة الصناعية وظهور النظام الرأسمالي في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وقد تواصلت هذه الهيمنة اثر الحرب العالمية الثانية .
ولا تنفي هذه النظرة وجود العلاقات الدولية والانفتاح على العالم في مستوى معين إلا أنها تفرض مراقبة دقيقة على هذا التمشي وتعمل على ضبط قيود صارمة أمامه .
ولئن سادت هذه النظرة على العالم خلال ثلاثة قرون وجعلت من العلاقة الوثيقة بين الدولة الوطنية والسيادة الوطنية نقطة ارتكاز الحياة الاجتماعية إلا أنها عرفت أزمة عميقة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي لتترك مكانها للعولمة «السعيدة»
أزمة السيادة الوطنية
عرف العالم بداية من سبعينات القرن الماضي جملة من التحولات التي كان لها تأثير كبير على المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية .
ويهم التحول الأول مسألة العولمة وتسارعها ومحاولاتها تجاوز حدود الدولة الوطنية وتنظيم الاقتصاد على مستوى عالمي .فالشركات الكبرى لم تعد تقتصر على الإنتاج للسوق الداخلية وتصدير الفائض للأسواق الخارجية بل انتقلت إلى إستراتيجية استثمارية وإنتاجية جديدة تعتمد على تطوير وتنظيم لسلسلة إنتاج عالمية (chaine de valeur globale) لا تتوقف عن الحدود الوطنية .
أما التحول الثاني والذي كان له تأثير على المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية فيهم مجال تجسيدها أي الدولة الوطنية التي دخلت في أزمات متعددة بعد الفترة الذهبية التي عرفتها اثر الحرب العالمية الثانية ونجاح دولة الرفاه في فتح فترة رخاء واستهلاك واسع .إلا أن الدولة الوطنية دخلت في أزمة كبيرة منذ بداية السبعينات مع تراجع النظام الفوردي وتطور البطالة والتضخم في اكبر البلدان.
ويهم التطور الرابع تنامي تجارب التكامل الإقليمي التي خلعت على الدولة الوطنية بعضا من صلوحياتها وسلطاتها وبالتالي قلصت من دور المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية .ففي بعض التجارب الإقليمية مثل أوروبا وآسيا وحتى إفريقيا أصبحت السياسة النقدية من مهام المركزية الإقليمية لا البنوك الوطنية .كما عملت التجمعات الإقليمية الجيدة على خلق أنظمة سياسية وسلط تشريعية وقوانين أخذت تعوض بصفة تدريجية مبدأ السيادة الوطنية في العديد من المجالات .
ويمكن أن نضيف إلى جملة هذه التحولات التي كانت وراء تراجع مبدإ السيادة الوطنية ظهور نوع جديد من المخاطر الكبرى مثل التلوث المناخي وظهور الجوائح الصحية في الفترة الاخيرة والتي أصبحت تتجاوز حدود الدولة الوطني وتتطلب تضافر الجهود على مستوى واسـع لمجابهتها وإيقافها.
كانت هذه التحولات وراء النقد الكبير الذي واجه مبدأ السيادة الوطنية وتراجعه منذ بداية سبعينات القرن الماضي .
العولمة ونهاية السيادة الوطنية
أحدثت العولمة منذ بداية سبعينات القرن الماضي ثورة لا فقط على مستوى السياسات بل كذلك على مستوى المفاهيم والتصورات والرؤى.وقد كان لمفهوم السيادة الوطنية النصيب الأكبر من النقد من قبل المفكرين والفلاسفة الجدد في مجال العولمة .فقد اعتبر العديدون أن السيادة الوطنية مفهوم بال ينتمي إلى النسق الفكري والفلسفي للحداثة والذي تجاوزه الزمن ولم يعد قادرا على فهم العالم وفتح آفاق جديدة لتجربتنا السياسية .وقد دعا المفكرون الجدد إلى المرور إلى عالم جديد تنتفي فيه الحدود والاختلافات ويتميز بالانفتاح والتعدد في إطار نسق فلسفي جديد هو نسق ما بعد الحداثة .
وفي إطار هذا الزخم الفكري والفلسفي وقع التراجع عن مبدإ السيادة الوطنية وتعويضها بمبادئ جديدة كالترابط (interdépendance) والتدخل والتكامل والتي شكلت الإطار الجديد للعلاقات بين الدول .
ولن يقف هذا الزخم على المستوى الفكري في نقد المفاهيم القديمة وبناء مفاهيم جديدة بل امتد إلى ارض الواقع والسياسات .فقد صاحبت هذا المفهوم الجديد تصورات مغايرة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.على المستوى السياسي حاولت عديد القوى و المؤسسات الدولية التراجع عن مفهوم السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني من خلال فرض مبدإ حق التدخل (le droit d’ingérence) بتعلات مختلفة مثل حماية حقوق الإنسان .
أما على المستوى الاقتصادي والمالي فقد شكلت العولمة الإطار لتجاوز الدولة الوطنية وحدودها وبناء عالم اقتصادي جديد مرتبط ومتشابك من خلال التجارة الدولية والاستثمارات الشركات العابرة للقارات .وجاءت هذه التطورات من خلال السياسات النيوليبرلية التي طبقتها أغلب بلدان العالم والتي عملت على فتح الأسواق وتحرير الاستثمارات المالية وبناء الاستراتيجيات الاقتصادية على المستوى الكوني .
لقد ساهمت العولمة والتراجع عن مبدإ السيادة الوطنية في خلق فترة من النمو والتطور الاقتصادي والتحول التكنولوجي .إلا أنها كانت وراء ظهور هشاشة كبرى على عديد المستويات ساهمت في تراجع مشروعيتها والعودة التدريجية إلى مبدإ مفهوم السيدة الوطنية لمجابهة المخاطر الكبرى .
أزمة العولمة وعودة السيادة الوطنية
كانت الأزمات المتتالية وآخرها الجائحة وراء تغييرات كبيرة ومتعددة الأبعاد على المستوى العالمي.فقد أثبتت هشاشة العولمة وعجزها عن مواجهة المخاطر الكبرى والهزات التي عرفها العالم بداية من الأزمة المالية الكبرى لسنوات 2008 و2009 مرورا بالأزمات المناخية وتنامي التهميش الاجتماعي وصولا إلى الجائحة .وشكلت هذه الهشاشة تحديا كبيرا لوعود وأحلام الاستقرار والأمن التي قدمتها العولمة وساهمت في بناء مشروعيتها .وقد فتحت هذه الفترة مرحلة من المرجعات والنقد لمسألة لتفسح المجال لعودة مفهوم السيادة الوطنية .
وقد مست هذه المراجعات عديد المسائل والقضايا الأساسية التي دافعت عنها العولمة وشكلت أساسها على مدى ثلاثة عقود.وقد ابتدأت هذه المراجعات في دور الدولة الوطنية التي أعلنت العولمة عن نهايتها ودخولها التاريخ.فقد كانت هذه الأزمات المتتالية وراء عودة قوية للدولة لحماية الاقتصاد من الانهيار وحماية المجتمعات من الجوائح والمخاطر الكبرى.
كما شملت هذه المراجعات الجانب الاقتصادي للعولمة والتي انبنت على فتح الأسواق أمام حركة رأس المال والمؤسسات الكبرى وتوزيع النشاط الاقتصادي خاصة في المجال الصناعي من خلال سلاسل القيمة الدولية (chaines globales de valeur) .وقد أثبتت هذه الأزمات صعوبة التزود بالسلع والمواد الأولية مما نتجت عنه صعوبات كبيرة في العديد من سلاسل الإنتاج وبصفة خاصة في مجال صناعة السيارات .
كما عرفت هذه المراجعات نقدا كبير للعولمة المالية التي اعتبر الكثيرون أنها ستساهم في تمويل حاجيات البلدان بأقل التكاليف ودعم الاستثمارات إلا أن الأزمات المالية اثبتت أن الليبرالية المالية كانت وراء المغامرة والمخاطرة والجشع الذي عرفته الأسواق المالية والذي كاد أن يقود الاقتصاد العالمي إلى الانهيار لولا تدخل الدول .
كما شملت المراجعات دور الشركات الكبرى في حوكمة الاقتصاد العالمي والتي تراجعت لفائدة المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة.
كما فتحت الأزمات المتتالية باب المراجعات لنقد العولمة النيوليبرالية وفسحت المجال لعودة السيادة الوطنية .والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم يخص المفهوم والتصور الجديد لمسألة السيادة .
من أجل رؤيا جديدة للسيادة الوطنية
كانت مسالة السيادة الوطنية وراء زخم فكري ونقاشات وجدل كبير في الأشهر الأخيرة.ولئن اتفق العديد من المفكرين والفاعلين السياسيين على ضرورة النظر بكل جدية إلى هذا المفهوم وانعكاساته السياسية والعملية أمام انحراف العولمة والهشاشة التي يعرفها العالم اليوم فإن الخلاف لا يزال كبيرا حول التصور الجديد لهذا المفهوم ولانعكاساته العملية .
وفي رأيي لا يمكن لن العودة إلى المفهوم القديم للسيادة الوطنية نتيجة التطورات الكبيرة التي عرفها العالم .فلابد لنا من ضبط تصور جديد يعمل على ايجاد توازن ضروري وأساسي بين الانفتاح المطلوب على العالم في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وبين ضرورات حماية المصالح الوطنية والدفاع عن مكاسبنا واختياراتنا .
ويمكن أن نجد هذا التوازن في سياسات الانخراط في محاولات التعاون الدولي والتكامل الإقليمي من جهة وسياسات دعم المجهود الوطني والطاقات الوطنية .وهذه السياسات تدعم المجالات التقليدية للسيادة كالدفاع عن الوطن وأمنه الداخلي وعلاقاته الخارجية.كما لابد لنا من إدخال عديد المجالات الجديدة والأساسية في عالم المخاطر الكبرى الذي نعيشه وهي مجالات الأمن الاقتصادي ودعم مؤسساتنا في المنافسة مع الشركات الأجنبية والأمن الغذائي والأمن الطاقي والأمن الاجتماعي .
إن التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والمخاطر التي نعيشها تفرض علينا فتح المجال للتفكير الاستراتيجي في بلادنا لتحديد الاختيارات والرؤى التي تسمح لنا بالانخراط في المنظومة الدولية والتعاون الإقليمي مع بناء الأسس الضرورية لسيادة قرارنا الوطني .
قهوة الأحد: في تحولات مفهوم السيادة الوطنية
- بقلم حكيم بن حمودة
- 11:15 21/03/2022
- 1236 عدد المشاهدات
عادت مسألة الوطنية في النقاش السياسي على المستوى الدولي في السنوات الأخيرة لتصبح محل اهتمام المحللين السياسيين والمفكرين والفاعلين السياسيين.