طوت أخر صفحة من صفحات «الرّبيع العربي» كما يحلو للصّحافة الغربيّة تسميته وأنهته من حيث انطلق، من تونس البلد الأوّل الذي أينع فيه قبل أن يزحف على عدد من دول المنطقة لتشهد بدورها «انتفاضات شعبية» عارمة أطاحت بأنظمتها.
إلى حدّ اليوم مازال العالم ذاهلا لسرعة تحوّل ذلك الرّبيع إلى حريق كاد أن يأتي على الأخضر واليابس والذي أغرق بقيّة الدّول التي ظهر فيها في بحر من الدّماء، فلقد تحوّلت سوريا إلى ساحة لكلّ الحروب الدّولية والإقليميّة والطّائفيّة ومرتعا لجميع التشكيلات الإرهابية التي قدمت من كلّ حدب وصوب، الشيء الذي أدّي إلى انقلاب في الأدوار، فإذا النّظام الذي كان يواجه انتفاضة شعبيّة تطالب بإسقاطه يصبح حرمة ترابها ويكتسب شرعيّة جديدة بتصدّيه لمؤامرة إقليمية ودوليّة والحامي لوحدة الدّولة السّورية واستقلالها ، وتنقلب الشكوك نحو أطراف من المعارضة السّورية حول تواطؤها مع أعداء سوريا ودعمها للأعمال الوحشيّة التي تعرّض لها الشعب السّوري من قبل العصابات الإرهابيّة.
وفي ليبيا تحوّل «حراك فبراير» من ثورة سلميّة أطلقها مواطنون للمطالبة بالحرّية إلى مواجهات دامية وتدخّل سافر لطائرات الحلف الأطلسي بمباركة الجامعة العربيّة لحسم الموقف لفائدة ما يُسمّي «بالثوار»، فإذا بالشعب اللّيبي لا ينال الحرّية التي انتفض من أجلها مع فقدان السيطرة على ثرواته بعد تفكّك أوصال دولته.
وفي اليمن لم تفعل ثورة الشباب سوى إيقاظ « الأغوال القديمة» النّائمة تحت ركام التّاريخ، وعادت القبائل اليمنية إلى الاقتتال في ما بينها كما حدث في التّاريخ، فمهدت الطريق لاندلاع حرب إقليميّة شاملة لتدمر ما تبقّى من مقدّرات بسيطة للشعب اليمني وتؤجل إلى ما لا نهاية طموحاته في الحرّية والعيش الكريم.
في مصر أدى تهوّر «الإخوان» واستعجالهم لتغيير نمط عيش المجتمع المصري وتحويل الدّولة إلى فرع من «أخويّتهم» confréri تخضع لسلطة مرشدهم بعد مسكهم للحكم ودخولهم في مواجهة مع المكونات المدنية من المجتمع المصري إلى انتفاضة يونيو 2013 التي استغلّها الجيش لاستعادة ما افتقده بثورة يناير 2011 ووضع السّلطة تحت إشرافه من جديد.
وساد الاعتقاد لفترة طالت بعض الشيء أنّ الأمر في تونس مختلف عن باقي دول المنطقة على أساس أنّها تمتلك كلّ المقوّمات التي تؤهّلها للعبور إلى الدّيمقراطية، وذلك بفضل التجانس الديني والمذهبي بين مكوّنات شعبها ولما تحقّق فيها من تراكم التّجارب السّياسية والاجتماعية التي حصلت خلال مرحلتي مكافحة الاستعمار وبناء دولة الاستقلال وخلوّ المجتمع التونسي من صداع الانقسام الطائفي و «الإثني» الذي مثّل وجعا دائما للعديد من دول المنطقة وبوّابة للتّدخّل الأجنبي.
و تهيّأ للمهتمّين بالشأن التّونسي أنّ مسار «الانتقال الدّيموقراطي» تقدّم أشواطا مهمّة وبات لا رجعة فيه بعد أن حصلت خلاله ثلاث انتخابات عامّة وتمت المصادقة على الدستور الجديد وتركيز عدد من الهيئات المستقلّة، لكن ذلك المسار توقف بمجرّد إعلان الرّئيس قيس سعيّد عن حل الحكومة وتعليق البرلمان، وانكشفت ثقوبه الدّستورية القانونيّة والسّياسيّة والاجتماعية والأمنية التي علقت به منذ انطلاقه وتراكمت وأدّت به إلى ما أدّت في 25 جويلية2021
صحيح أنّ تونس لم تسقط في ما سقطت فيه دول « الرّبيع العربي» الأخرى من عنف واقتتال وأنّ الجيش ظل على الحياد إلى حدّ ما، لكن تلك الضّربة التي تلقّتها التّجربة التّونسيّة كشفت عن هشاشة ذلك المسار وضعف البنى الحزبيّة والتّنظيميّة، فلم تقدر تلك الأحزاب أن تتخلّص من أوحال مشاكلها الدّاخلية والهيكليّة والانطباع الحاصل حولها لدي عامّة النّاس بأنّها لا تعدو أن تكون سوى مقاولات انتخابية ومصعدا للتسّلق الفردي والمصالح الفئوية الضّيقة، تلك الصّورة هي التي اشتغل عليها الرّئيس لعزل الأحزاب وتعميق الهوّة بينها وبين الرّأي العام، وتلك الصّورة هي التي ساعدته على توجيه ضربته إليها بكلّ سهولة وساعدته على كسب تأييد شعبي كاسح، فالجماهير المحبطة من السياسات المتّبعة خلال العشريّة المنصرمة تُحمّل الأحزاب تردّي أوضاعها الاقتصادية والمعيشيّة بشكل خطير. ولم يعد يهمّها إن كان الخطاب الذي يخلّصها منها شعبويا أو عقلانيا!! ولم يعد يهمها إن تُحكم البلاد بالمؤسّسات أو من قبل فرد! خاصّة أنّها تستبطن من موروثها صورة « «المستبد العادل» القادر على معاقبة «الأشرار» وملء الأرض عدلا.
الظاهر أن قصّة تونس لم تنتهي بذبول « أوراق ربيعها» وأنّها مقبلة على فصل جديد لا أحد يعرف لونه ومآلاته بعد أن أفصح الرّئيس أنّ مهمّته لن تقتصر على الإجراءات الاستثنائية كما ينصّ عليها الدّستور بل ستمضي إلى اجتثاث المنظومة القائمة من جذورها بما هو قديم وما هو مستحدث وإحلال مشروعه بدلا عنها.
وقد شرع بالفعل في «الحرب» على كلّ ما يراه عائقا أمام مشروعه، فبعد البرلمان والحكومة جاء الدّور على هيئة مراقبة دستوريّة القوانين وهيئة مكافحة الفساد ثمّ على المجلس الأعلى للقضاء، وعلى هذا النّسق، يبدو أنّه لن يستثني أيّ هيئة أو هيكل من الهدم، كي يقع مسح الساّحة بالكامل لترك المكان للبناء الجديد الذي لا يتشابه مع أي نموذج سابق، لا «السوفياتي» ولا « اللجان الشعبية» ولا « المجالسية» وسيكون «نموذجا جديدا يُقدم لكلّ العالم لحل معضلة الديمقراطية التمثيلية» كما جاء على لسان أحد أنصار الرّئيس.
وخطورة هذه المغامرة لا تكمن في ما يمكن أن تحدثه من شروخ جديدة في جسم مجتمع مهترئ ومتعب من معاركه الجانبية فحسب، بل في تحليقها على بساط من الحماس والانفعالات خارج الزمن الاقتصادي والمالي والذي سيكون حاسما في ما ستؤول إليه .
وبذلك ينتهي «الربيع الخادع» الذي «اكتفى بتفجير المشاكل بدلا عن حلّها» كما جاء على لسان الأستاذ صالح هاشم .