ربما لم يعرف التاريخ من استعلانات «الأنا» قدر ما عرفه في أدبنا وشعرنا وخطابنا الفكري على اختلاف أجناسه: هل كان طرفة ابن العبد يسمع نفسه وهو بنشد:
«أنا الرّجل الضرب الذي تعرفونه
خشاش كرأس الحية المتوقّد»
هل كان أبو العلاء يسمع نفسه حين كان يردّد:
«وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل»
مثل هذا السّؤال الذي يستطيع أن يستحضر آلاف الشواهد على «حضور» للنفس في مشهد «الأنا»، سيبدو لا محالة سؤالا غير ذي معنى لو كان مقصوده هو المشهد. ما الذي نرى حين نرى؟ ما الذي نسمع حين نسمع؟ ألم يقل بروتاغوراس، منذ خمسة وعشرين قرنا،ـ عن الإنسان إنه «مقياس كل شيء»؟ أترى بروتاغوراس قد أدرك بذلك الذاتية الحديثة التي تنتصب حَكَما على ما يوجد؟ أليست مقياسية بروتاغوراس مجرد نزعة نسبية (relativisme) تقوم ضمنها الرؤية، والذوق والإحساس؟ أني «أنا» المقياس، في مذهب بروتاغوراس، فذلك لا يعني أكثر من كون الأشياء تنطبع فيّ بحسب نسبية ما أرى أو ما أحس، وليس في ذلك أي ارتقاء لي إلى أي كونية أو كلية تجعلني أكون «أنا» الإنسان الذي «نحن «بالجملة إياه» كما قال ديكارت. الإنسان «مقياس كل شيء» لأنه يراها في منفتح النور والحضور الذي للوجود وهو شاهد عليه. أن يكون الإنسان مقياسا، فذلك لا يعني أكثر من كونه مكانا تذرعه الأشياء. ولكنّ الذاتية الحديثة ليست ذاتيةً فقط بفعل تجميعها للنسبيات ضمن كونية إنسانية، وإنما هي كذلك لأنها تجمع ما يوجد ضمن لغة كلية، هي لغة التمثل الرياضي. ما الذي يحدث إذن عندما تمر الإنسانية من ذاتيات الرؤى التي تسمح لكل فرد بأن يعلن أنه «أنا» على مقاسه الشخصي، إلى كلية الرؤية التي تخضع الوجود إلى التمثل الرياضي؟
لا يضع الإنسان القديم نفسه موضع السؤال من حيث هو محل حضور الأشياء، أي محل استحضارها. لذلك ليس في صرخة طرفة، ولا في عزم أبي العلاء أكثر أي شيء من قبيل «استحضار الأشياء للنفس، وموضعتها أمام النفس، موضعة تكتسب منها الأشياء استقرارها في التمثل، وتستمد من تمثُّليَّتها تلك عنصر وجودها». أمّا الرجل الضرب الذي تحدّث عنه طرفه فما هو إلا «الذي تعرفونه»، هذا الرجل المتاح في شهود «القوم» اليومي.
عندما كان الشاعر يعلن «أناه»، وحتى عندما كان بعض أصحاب الرأي يعلون أصواتهم بأن ما كانوا يقولونه إنما هو رأيهم لا يتبعون فيه أحدا، فإنهم كانوا في الحقيقة لا يسمعون أصواتهم بل يسمعون جلبة الناس، أو يسمعون انسجامهم معهم. إنما نحن ضمن زحمة يومية، لا نسمع فيها أنفسنا عندما نصرخ بأعلى أصواتنا، لأن كل ما نسمعه هو ترديد الناس وصداهم فينا. فإما أن نكون داخل ذاتية نسبية لا يسمعنا منها أحد لأنها قد تَلْفِت الفضول وحتى الاستحسان أو الاستهجان، ولكنها لا تعبر عن أي مشترك، وإما أننا نسمع جلبة المحيطين بنا فنردده ظنا منا أننا ننطق، وظنا منا أن نسمع أنفسنا وما نسمع في الحقيقة إلا أصواتهم ولغوهم. أصرخ ملء حنجرتي ولا أسمع نفسي: لا يعني ذلك أني لا أسمع، أو أن تشوّها ما قد بات يعوقني عن ذلك، وإنما يعني أن ما أسمعه ليس إلا صوتهم فيّ. لقد ابتدأ ديكارت فقرّر أن كل ما سمعه، وكل ما تعلمه، من يوم كان مغلولا مواجها لجدار الكهف، معرّضٌ للخطإ. أتراه لم يكن «يرى»، و»يعرف» في الكهف؟ بلى كان. ولكنه كان يرى، ويرى هذا الذي يراه الجميع، حتى لو كان نسبيا في كيفية الرؤية. لقد كان يرى ولكن لا شيء كان يضمن رؤيته. لذلك شك. ألم يشك من قبله كثيرون؟ بلى. شك من قبله الريبيون، وشك أبو حامد، وشك الجاحظ، وشك أبو العلاء، وأشكلت الأشياء على أبي حيان .. فما الذي حدث مع ديكارت؟ أولئك كان شكهم ضمن الفرجة التي تتيحها لهم الأشياء إذ هي تمر أمامهم، وكان يقينهم يحصل من ترجح أحد تلك الأشياء الحاضرة أمامهم. وحتى عندما وضعوا حواسهم موضع الشك، فإنهم وضعوها بما هي أدوات من بين الأدوات. ولم يخطر ببالهم أبدا أن الشك فعاليتهم هم، وأنه بقدر ما كان يعصف بالمشكوكات، فإنه كان يعضّد نفسه، يقينا وحيدا. إن الشك، التفكير، الذي قامت عليه الذاتية الحديثة قد كان شرطُه على الأشياء غيابَها من أجل أن يستحضرها هو تمثلا. لم تعد الرؤية تابعة، محاذية، مجاورة للحضور الذي يرى، بل باتت استحضارا لما ليس حاضرا، ولو كان حاضرا. ماذا يعني ذلك؟ إنه لا يعني مجرد غياب للأشياء أمام الحس أو أمام الإدراك، ثم تذكرا لها، وإنما إخضاعا للأشياء إلى نظام صياغة رياضية تصبح بواسطته تمثلا. لم يعد اليقين مطابقة لمعرفتنا مع الأشياء، وإنما بات مطابقة للأشياء مع تمثلنا. إن ما أراه ضمن التمثل الحديث ليس الأشياء، وإنما رؤيتي للأشياء ويقيني منها. لقد كنا مع القدامى نرى. ولكننا، في الحقل الذي فتحته الذاتية الحديثة، أصبحنا نرى رؤيتنا. ولا قوام للأشياء خارج تلك الرؤية التي هي تمثُّلنا لها. كنت أصرخ ملء حنجرتي وسط جلبة الأشياء والناس فلا أسمع صوتي. فكأنما هي صرخة في واد. أما اليوم فلا أسمع إلا صوتي وسط تلك الجلبة ولو كنتُ، في صخب الكيان اليومي وفي ضوضاء الناس من حولي، وفي غمغمات «الهُم» المحيقين بي، لا أهمس إلا همسا.
أشياء فلسفية: أصرخ ملء حنجرتي ولا أسمع صوتي
- بقلم محمد أبو هاشم محجوب
- 09:56 10/11/2021
- 992 عدد المشاهدات
كلا. لست بصدد وصف كابوس من تلك الكوابيس التي نعرفها، والتي كثيرا ما تحتبس فيها أرجلنا عن المشي رغم إرادتنا، وإنّما هو حالُنا اليومي من الغياب.