هو ما يُنتِجُ حرية حقة في الحركة داخل عالمنا الذهني، توازي حريتنا في الحركة في العالم المادي».
وكأنّ فايسبوك صار مدرعّة للقتل المعنوي، قاذفة صواريخ لإيذاء وتحطيم المشاعر الإنسانية، فالمحاكمات الشعبية الشعبوية للجماهير الفايسبوكية لم يتمّ التعاطي معها وفق الجرائم الإلكترونية، بل أصبحت حرية تعبير ومزاج الرأي العام الحاكم لأمره الذي يتصرف بسلوك المختار، أو ذلك الذي يحيط علما بكل شيء ولا يخفى عنّه ولا تخفى عنّي شاردة ولا واردة، كما أنّي على صواب وأعي دائما ما أقول، فأنا صادق صدوق وأنتم كاذبون حتى تثبتوا العكس، أنا طيّب وأنتم أشرار إلى أن أراكم حملانا كما أعرفها..
هل يمكن أن نصف سلوك القطيع بحالات من «الهستيريا الجماعية» التي تصيب أفرادا بعينيهم لمحاكمة هذا أو ذلك، أو لشيطنة هذه أو تلك؟ يفترض علماء النفس أنّ مكمن الهستيريا الجماعية ينبع أساسا من «غريزة القطيع المتأصلة بالكائن البشري»، وحتى تقام دراسات لتكشف ما يحصل، لم يستطع أي شيء أن يوقف المحاكمات الرمزية منذ جانفي 2011، هذه المحاكمات التي تهدأ وتنشط وفق مستجدات المجال العام، ذلك المجال الذي يجمعنا ويفصلنا عن بعضها البعض في آن، هذا المجال الذي اختلّ فيه التوازن لصالح اللا مشترك (من حملات شيطنة وقتل معنوي وتقسيم وتخوين وتكفير..) تلاشى المشترك في المجال العام الذي هو وسيط بيننا، فكأننا أصبحنا إمّا قطعان متكالبة متصارعة أو أفرادا صامتين أو معزولين.
لا يوجد إحصائيات ولا دراسات عمن قتلوا معنوّيا أو عمّن يصارعون موتهم أو نجاتهم. ولا حديث يذكر عن أثر القتل المعنوي أو محاولاته، على الفرد والمجتمع. فالمجتمع المتقاتل معنويا لبعضه البعض يتداعى على بعضه البعض أيضا، وعندما لا يجد قاتل ما ضحيته، عندها سيكون الكل قد قُتل بدرجات متفاوتة.
هل أصبح القتل المعنوي أهم سمات سلوك القطيع؟ فقد اعتبر الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في مؤلفه سيكولوجيا الجماهير أنّ ذكاء الأفراد داخل الجماعة أو المجموعة معطّل، فالفرد يمكن أن يلاحظ عدم عقلانية أمر ما، ويمكن أن يتساءل ويشك ويحلّل وينبش ويفكّك، غير أنّ الجماهير من الناحية الفكرية والعقلية أشبه بالطفل الصغير، الساذج، الذي يصدق بسرعة، والذي تتحكم فيه عواطفه المتطرّفة بالكامل. الطفل الذي يمكن تحريضه وتحريكه بالاستناد على العواطف فقط.
عندما سئل قاتل الكاتب والمفكّر المصري فرج فودة أمام المحكمة، لما قتلته؟ أجاب بسبب فتوى قتل المرتد، وعندما سألته المحكمة:»أي كتاب من كتب فرج فودة جعل تعرف أنه مرتد؟ أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولما سُئل لماذا اختار موعد الاغتيال قبيل عيد الأضحى، أجاب: لنحرق قلب أهله عليه أكثر..
وعندما نتحدّث عن المحاكمات الفايسبوكية وحملات الشيطنة والقتل المعنوي نرى جليا أنّ الجماهير تمارس أقسى أنواع الوحشية في هذا الصدد، بل ويزداد دائما عنفها وتطرّفها في قتل الآخر لأنّ الجماهير لا تشعر بأي مسؤولية، كما أنها تحتمي بكونها غير معرضة للعقاب.
هذه الجماهير المجنونة التي يمكن أن تمنح صكّ طهارة وغفران تنقلب بعد قليل ويصبح الطيب شريرا والشرير طيب، وكل ما ترتضيه من صفات، لأنها «جماهير مجنونة» كما يقول غوستاف لوبون، وهذه الجماهير الشعبية تغير آراءها مثلما يغير ملابس، ولا شيء مستقر غير ما تقترفه وما تجرفه من فضاعات في طريقها.
كما أنّ الجماهير لا تستطيع أن تعيش دون أوهام وآمال.. ترفض ما لا يريحها وما يزعج سكينتها الجماهير، لا تريد الحقيقة، ولو كانت الحقيقة مزعجة ومقلقة، ستنظر إلى «الحقيقة» من الناحية الأخرى، وستستكين إلى ما يريحها حتى لو كان غير عقلاني أو منطقي.
من خصائص الجماهير أيضا أنها تعادي وتحارب كل من يحاول أن يكشف الأوهام من أمامها، أما ذلك اللاعب على أوتار الأوهام فستستمع له الجماهير بكل طاقتها وحماسها. لأنها لا تتواصل بالعقل أو المنطق، بل بالعاطفة والصور البسيطة، وتستجيب إلى المبالغة والتكرار والتأكيد، والتقليد، كما أنّ الجماهير متعصبة ومحافظة وتميل للاستبداد، مهما ادّعت الثورية والتجديد، و»تحترم القوة فقط وترى الطيبة على أنها ضعف، تحب التمرد على السلطة الضعيفة، وتبالغ في إهانة الديكتاتور المخلوع، ليس لأنه كان يستعبدها، بل لأنه فقد قوته وانتقل من خانة القادة الأقوياء لخانة الضعفاء ‘’.
طبعا لا يمكن أن نشيطن بدورنا الجماهير التي لا يمكن أن تعتبر ردود أفعالها سيئة بالأساس وفي كل الأحوال ، فكما يمكن أن تكون إجرامية يمكن أن تكون بطولية حيث أنّ الجماهير «تمتلك حسًا روحيًّا عاليًا، لو قام المحرض بتوجيهها بصورة صحيحة، فيمكن أن تضحي وتقوم بأعمال راقية كبيرة، مثل حروب الاستقلال وثورات دفع الظلم، وإنجاز المشروعات الضخمة الوطنية»، من ذلك في حالات الحروب والأزمات العقل الجمعي يحمي الناس ويخلق تضامنًا اجتماعيًّا قويًّا، تجعل شعبا ما يشيّد حضارته ويحمي ما بناه..
من له قدرة تحريك الجماهير كي تتجه للبطولة والبناء المشترك والإصلاح؟ أصحاب العقل والرأي والكفاءة لا نفّاخ طبول العاطفة والشعبوية.