وانه من المعلوم منذ زمنا بعيدا لا يمكن نجاح أي انتقال ديمقراطي دون ثقافة ديمقراطية. ورغم هذا فان الحكومات المتتالية منذ عشر سنوات لم تعتن إطلاقا بنشر الثقافة الديمقراطية باعتبارها إحدى ضمانات النظام الديمقراطي ومن الغريب جدا ان وزارة الثقافة على سبيل المثال لم تنظم ولو ندوة واحدة حول أهمية ودور الثقافة الديمقراطية في مسار تحولات المجتمعات من مجتمع مقيد إلى مجتمع ديمقراطي وعدم الاهتمام بنشر الثقافة الديمقراطية هو من بين المظاهر التي تجعلنا نجزم أن اغلب الطبقة السياسية الحاكمة لا تؤمن بالفكر الديمقراطي.
والغريب في الامر ايضا أن منذ العشر سنوات الأخيرة لم ينظم مجلس نواب الشعب ولو دورة تكوينية واحده لأعضائه حول الثقافة الديمقراطية واهميتها في ترسيخ مبدإ و حق الاختلاف وحرية التفكير و حرية التعبير وكيفية التعامل داخل هذه المؤسسة بل ساهمت هذه المؤسسة في نشر ثقافة الاقصاء والانتقاء و الانتقام و القبلية الحزبية.
ثانيا: البرلمان او مجلس نواب الشعب يعتبر المرآة الحقيقية لتطور الفكر الديمقراطي و الثقافة الديمقراطية في كل الدول .فما نلاحظه ان تلك المؤسسة تحولت الى عكس ذلك فأصبحت ركح مفتوح لمقاومة الديمقراطية و الفكر الديمقراطي وذلك من خلال سلوك العديد من ممثلي الشعب .كما تحولت ايضا هذه المؤسسة الى اداة للإطاحة بالمشروع الديمقراطي الاجتماعي وحولت الاولويات التي تأسست من أجلها الدولة الوطنية: المصلحة الوطنية، المصلحة الحزبية والمصلحة الذاتية وأصبح الأمر عكس ذلك تماما خاصة في السنوات الاخيرة.
ثالثا :دور رئيس مجلس النواب يمثل في كل الدول الديمقراطية المرجع الأساسي في الالتزام بالأخلاق السياسية و احترام دولة القانون والمؤسسات أي التخلي عن المصالح الحزبية والذاتية والتعالي على الممارسات العصبية(انصر اخاك ظالما او مظلوما) السياسية. كما أن صاحب هذا المنصب أي رئيس المؤسسة التشريعية يعتبر ضمير المجتمع بكل مكوناته و لكن مع الأسف تحول رئيس هذه المؤسسة إلى قائد مجموعة تعمل علنا على تحقيق مصالح حزبية وشخصية و تمارس اليات الديمقراطية الشكلية نتيجتها هي التخلص تدريجيا من كل مقومات الثقافة الديمقراطية و الفكر الديمقراطي . كما ان رئيس هذه المؤسسة فشل أيضا بصفة واضحة في تسييرها لأنه دمج بين التسيير الحزبي وتسييير مجلس نواب الشعب .
رابعا :لا يمكن لأي انتقال ديمقراطي ان يتم دون الاعتراف بالذاكرة الوطنية اي بالقيم التي دافعت عنها شخصيات مدنية او مجموعات سياسية ساهمت في بناء هذا الوطن خاصة هؤلاء الذين بطريقة مباشرة او غير مباشرة كانوا وراء تأسيس مشروع الجمهورية الديمقراطية ويكفي ان نطلع على الحالة المزرية لمقبرة شهداء وزعماء تونس في الجلاز حتى يتبين لنا ان الطبقة السياسية التي حكمت تونس في العشر سنوات الأخيرة ليس لها شعور بالانتماء الي هذا الوطن تشعر ولا تعتقد ان لها ارتباطا معنويا وامتداد مع هؤلاء الشهداء واعتقد ان اغلبهم لا يعرفون حتى مكان هذه المقبرة.
ولذا اعتقد ان هؤلاء الزعماء الجدد لا يؤمنون بالبناء المستمر للدولة الوطنية. ان هذه المقابر لها دورا كبيرا في تعميق الشعور الوطني .ان الذاكرة الوطنية هي اوسع من السلطة والاحزاب ولا يدخل ضمنها من يريد .
خامسا :السلطة التنفيذية تحولت الى مكتب تشغيل ينشر سير ذاتية للوزراء تم انتداب اغلبهم دون اي تجربة سياسية حيث ان هؤلاء لم يمارسوا سابقا اي نشاط نقابي أو سياسي أو اجتماعي . هذا التوجه مقصود وذلك لغلق الابواب لكل من له تجربة و طموحات سياسية قادرا على منافسة الطبقة السياسية الحزبية التي تعتبر ان هذه المناصب يجب ان تكون تحت رقابتهم .
سادسا: ان الديمقراطية لا تعني فقط التحولات السياسية بل من المفروض ان تكون لها امتدادات اقتصادية و اجتماعية وثقافية تمكن الشعب من استرجاع كرامتة و التمتع بالنمو الاقتصادي والاجتماعي ولكن ما حصل في السنوات الاخيرة هو تفقير الشعب وتهميش الشباب و الجهات وتوسيع نشاط الاسواق الموازية و السماح لكل اشكال الاحتكار ان تضغط على الفئات المفقرة و المتوسطة لمضاعفة أرباحها. ومن خلال هذه الظاهرة تسرب الشك لدى الفئات المتوسطة و المفقرة في شرعية الأنظمة الديمقراطية وأهميته.
واعتقد ان هذا التوجه مقصود ايضا يهدف الى اكراه الشعب التونسي في كل ما يتعلق بالديمقراطية و الفكر الديمقراطي. وهكذا تفتح الابواب على مصرعيها للتخلص من مشروع الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية.
الانتقال الديمقراطي دون نمو اقتصادي و تنمية اجتماعية يؤدي حتما الى فشل التجربة الديمقراطية .
اخيرا تبين ان الطبقة السياسية الحزبية الحاكمة منذ العشر سنوات الاخيرة تلجا الى مغازلة الشعب بوعود تافهة وصبيانية في الحملات الانتخابية التي تحولت الى اغراءات وهمية لا ترتقي الى مضامين الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية. كل هذه الوعود التي تبقى حبرا على ورق ساهمت في توسع الشك في النظام الديمقراطي بما في ذلك دور الانتخابات و اهميتها في مرحلة الانتقال الديمقراطي.
ختاما: أعتبر ان كل هذه العناصر مثلت منظومة متكاملة تهدف للقضاء تدريجيا على الانتقال الديمقراطي نتيجتها المقصودة والغير مقصودة هي القضاء علىه.
وفي غياب رؤية استشرافية Anticipation انزلق تدريجيا الانتقال الديمقراطي الي أن وصل لنهايته واستفاقت تونس مطوقة بالكوارث المتعددة والمتنوعة: اقتصادية، اجتماعية، صحية،بيئية، أخلاقية ....
والسؤال المطروح اليوم كيف نتجاوز هذه الاخلالات وهذه المظاهر لزرع من جديد الوعي بضرورة بناء جمهورية ديمقراطية اجتماعية وتـأسيس ثقافة ديمقراطية لصالح الجميع؟
وكيف نتجنب كل مظاهر العنف والتعصب والكراهية وفكر النقمة والانتقام لتأسيس انتقال ديمقراطي سليم حضاري ومتكامل مرجعته رغبة الشعب التونسي: الشغل ،الحرية،الكرامة الوطنية؟
وكيف يمكن أن يتجاوز هذه الكوارث دون حوار مجتمعي من أجل تأسيس التحالف الاجتماعي قادر على التعبير على المصالح ذات البعد الوطني التي تتجاوز المصالح الحزبية المحلية ومصالح الدول الأجنبية التي تعتبر تونس مخبر سياسي واقتصادي يمكن توظيفه لمصالحها الاستراتيجية والاستعمارية؟
الانتقال الديمقراطي من أين الى أين؟
- بقلم المغرب
- 11:07 03/08/2021
- 1262 عدد المشاهدات
بقلم: رضا التليلي
أولا: إن حرية التفكير و التعبير وحق الاختلاف لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت المسببات لأنها تمثل العناصر المكملة للثقافة الديمقراطية