وأثارت ردود فعل آنية متباينة إذ صار الرئيس قيس سعيّد، بموجب حالة الاستثناء التي تنظم مؤقتا السلطات العمومية، الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية ومصدر التّشريع، ورئيس النيّابة العمومية، مجمِّدا فعليا صلاحيات المؤسسة التشريعية وواضعا حدّا لمهام الحكومة الحالية، معلنا بذلك دخولنا منعرجا جديدا.
حرص رئيس الجمهورية على إدراج هذا المنعرج ضمن سياقين متلازمين، الأول دستوري والثاني سياسي وتاريخي في محاولة للتأليف بين قانونية قراراته وشعبيتّها في ذات الحين، أي تنزيل حركته التاريخية ضمن مسار إرادي لإعادة بناء الجمهورية في أفق ثورة الحرية والكرامة.
فبمقتضي قراءة أحادية للفصل 80 وفي غياب المحكمة الدستورية، أوّل قيس سعيّد معني الخطر الّداهم، ورسم حدود التشاور مع رئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة، واتخّذ جملة التدابير التي رآها ضرورية ليبقى ضمن شرعيّة مهما كانت هشاشتها أوعدّت خروجا عن الشرعية في نظر آخرين. شرعية دستورية في نظره , و تجاوبا مع كره الناس لمنظومة الحكم وتطلعهم إلى تجاوزها , أدرج سعيّد قراره في سياق فوق قانوني بالضرورة أي ضمن حركة تاريخية تصحّح المسار الديمقراطي في انتظار عرض إطار قانوني جديد لاحقا، لا نعلم الآن تفاصيله.
وهو بتبنيه لسردية مركّبة : ثورية تستمدّ عمقها من 17 ديسمبر- 14 جانفي، و أخلاقية مرجعيّتها النزاهة و وطنية حماية الدّولة نواتها الصلبة ، يغادر المعيارية القانونية ويمدّ جسورا مع الشعب دون حاجة الي أجسام وسيطة ونخب بل في ظهر هذه الأجسام وضدّها أحيانا حيث تغدو الثقة والمحبة والرّجاء في الخلاص , انفعالات إيجابية تملأ الفضاء العاطفي بين الرئيس والشعب , وهو أمر على غاية من الأهمية اليوم في عصر أصبحت فيه الانفعالات قوة دفع سياسية قد تسير في اتجاهات متعددة بل متضاربة أحيانا بحسب اختلاف السياقات كما تبين عدّة تجارب في العالم . ويمكن القول أنّ قيس سعيّد قد كسب دون ريب، معركته مع خصومه على أرضية ''الاقتصاد الأخلاقي''، ومطالب رفض الاحتقار، وانتزاع الاعتراف الذي تحرّكت قطاعات واسعة من المجتمع المقصي من أجلهما ، كما استطاع بفضل خطاب تعبوي رسم حدودا واضحة بين ''الشعب '' و '' أعدائه '' ، أن يحوّل مشاعر الاحتقار والإحساس بالدّونية, إلى انتصار أشاع الفرحة وأعاد نبض الأمل إلى قطاعات شبابية و شعبية واسعة.
انطلاقا من هذا التلازم بين السياقين الدستوري والسياسي التاريخي لحركة 25 جويلية يمكن أن نفكرّ في ما حدث على امتداد الساعات الفاصلة بين بداية التحركات صباحا في جلّ جهات البلاد وكلمة رئيس الجمهورية مساء باعتباره التكثيف الأخير للأزمة الخانقة التي نعيشها منذ نتائج انتخابات 2019 والتي غدت صحيّة و اجتماعية و سياسية , كما نعدّه إعلانا للخروج منها بـتأييد شعبي معلن وضع حدّا لاكتئاب جماعي عامّ وحوّل المنهزمين والمقهورين الى منتصرين جدد.
ولعلّ في ذلك تأكيد لما قاله والتر بن يامين عن التاريخ باعتباره كرنفالا مستمرّا من احتفالات المنتصرين والمنتصبين بكلّ انتشاء على منصّة الظفر على حساب المهزومين المذهولين. و النتيجة الطبيعية هي أن يعيد هؤلاء ترتيب صفوفهم لاعتلاء المنصة مجدّدا. هكذا يبدو التاريخ كحلقة لولبيّة من القلق والاضطراب، وما الهدوء سوى حالة عارضة . وحدهم الدّغمائيون والمستبدّون يعتقدون أن التاريخ أكمل دورته يوم ينتصرون.
لنقل منذ البداية أنّ الاعتراضات المسجّلة من قبل عديد الأطراف على هذه الإجراءات بموجب المنطق الدستوري ذاته، أو اعتبار ما حدث انقلابا ناعما من وجهة النّطر الإجرائية والتقنية وأنّه في الأدنى «مرور بقوة» ينطوي على احتمالات انحراف تسلطي مجهول المآلات, ليست مجردّ تشبث شكلي و مغالى بالقانون , بل هي أيضا في جوهر التذكير بالعلاقة بين السياسية والقانون كشرط قيام كلّ عقد اجتماعي وديمومته، وضمان وحدة الدولة بالمعني الحديث الذي علمنها وحرّرها من سطوة الالهة والكتب المقدسة، وجعل منها المجال الذي يحقق فيه الانسان ، بالتّساوي مع الآخرين وفي ضلّ حماية القانون ، مواطنته عبر تجاوز أنانيّته وتخليّه عن عدوانيته. ولا يعني هذا أن هذه العلاقة لا تاريخية بل هي محلّ مراجعات دائمة وصراعات مستمرة. وتبدو الانتقادات الحادة وحتى التهجّمات على أصحاب الرأي المعارض لقرارات الرئيس مؤشرا سلبيا على ضعف قدرة الفضاء العمومي في تونس اليوم قبول النقاش العام التعدّدي وإثرائه، وهي تحمل تبريرا خطيرا لإسكات الرأي المخالف استقواء بالأغلبية الساّئدة .
ومن خارج مقولات العقل الدستوري المحض، وفي سياق عاطفي وسياسي مشحون، نزلت قرارت رئيس الجمهورية بردا وسلاما على قطاعات واسعة من الشباب الغاضب وعموم المواطنين. وهو معطي اجتماعي وشعبي لا يمكن تجاهله بل لعلّه الأقوى دلالة اليوم ويعكس حالة التّصادي بين مطلب الكرامة والمجتمع الأخلاقي العميق، من جهة، وقرارت عيد الجمهورية الرابّع والستين، من جهة أخرى وهو أحد الدّوافع التي أدّت إلى قبول عدة أحزاب ومنظمات وطنية بالمنعرج الذي أحدثته قرارات الرئيس والمسك بطرفي المعادلة أي أخلاقية الدّولة , وشرعيّة سلطتها القانونية القوية.
فهل نكتفي هنا بما هو شعبي لنبني موقفا متناغما مع منعرج 25 جويلية أم نتمسك بما هو قانوني ونستحضر دروس التاريخ و تجارب شعوب العالم لنتوجّس من احتمالات عودة الحكم الفردي؟ بمعني هل نضع الشّعب المحض قبالة القانون المحض؟
ليست الاجابة عن هذا السؤال صماء بل مركبة وتفاعلية لذا سنحاول التمهيد لها من خلال أربع مقدمات كبري:
الأولى، حقوقية قانونية: إذ تحوّلت السيادة من المؤسسات المنتخبة الي يد ''رجل واحد'' وهي حالة الاستثناء التي تتعارض مع القاعدة الديمقراطية كقاعدة دائمة وملزمة للجميع وضامنة للتعدّد والعيش المشترك، ولا يمكن لنا تبرير ديمومة حالة الاستثناء والتنظير لها دون أن نصيب قيم الديمقراطية في مقتل. إذ تبقي حالة الاستثناء تعبيرا عن اختلال للتوازن بين القانون العام والشأن السياسي؛ وهي حالة من غير الممكن أن تتحول إلى نظرية عامة في القانون. والأصل في الأشياء أن تعود سلطة القانون كسلطة عليا تحكم دولة الحق كدولة ضامنة لعلوية القانون وخاضعة له في ذات الحين. والمنتظر لتونس اليوم هو عودتها سريعا الى الشرعية الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلطات وضمان الحريات والتعددية. ولا نستطيع أن نقبل حتي في ضلّ التأييد الشعبي للرئيس الابطاء في إعلان خريطة طريق للمرحلة القادمة .
الثانية سياسية: ومضمونها تشخيص انسداد منظومة الحكم السابقة وعجزها عن تجاوز عطالتها ووقف رداءتها وصلفها الذين جعلا من إسقاطها، ولو بغير الوسائل القانونية، لدي البعض ضرورة تاريخية، وحلما مرتجي ومخرجا وحيدا، كما جعلا من إلغائها ليلة 25 جويلية واقعة سياسية إيجابية يمكن البناء عليها من أجل حماية مستقبل الديمقراطية، ولا يمكن بالنتيجة قبول عودتها كما كانت عليه. فهي اليوم في عداد الماضي ويفترض في المستقبل أن يكون مغايرا . إن السياسة ليست كما أرادها المتنفّذون بكلّ أطيافهم و على امتداد العشرية السّابقة مجرّد مجموعة وسائل تقنية ومناورات وخدع تهدف امتلاك السلطة والاستمرار فيها و لعلّ ذلك هو الدرّس الأهم و الملحّ , لننتظر ونري من استخلصه بحقّ .
الثالثة شعبية إذ لم تكد تمرّ عشر سنوات من الحكم حتى صار الإسلام السياسي وقياداته المؤثرة ، في حالة عزلة متنامية، تلاحقهم شبهات تورط في الفساد وتواطؤ مع الإرهاب، وأصبح الحس الشعبي، بعد سقوط أقنعهتم ونفوره من مكابرتهم، رافضا للتوظيف السياسي للدين مدركا لمخاطره، ومهيئا لمرحلة جديدة في مسار تشكيل وعيه ودوره السياسي، دون أن يعني ذلك، كما قد يتهيّأ لمساندي الرئيس اليوم من بعض ''الحداثيين '' ممن أزعجتهم سابقا نزعته المحافظة الصريحة ، الرّبط بين هزيمة الاسلام السياسي و إسكات الأصوات المحافظة , بل إنّ صورة الرئيس المحافظ ، بالذّات قد تكون ساهمت في توسيع دائرة ثقة طيف من الناس فيه وطمأنتهم , فالديمقراطية هنا ليس مرادفة للتنوير بالمعني الغربي .
و هو لا يعني، أيضا، مصادرة حقّ قطاع من الشعب المحافظ في أن تكون له تعبيراته السياسية وتمثيليته الحزبية، أو حرمانه من المشاركة في الحياة العامةّ. وبكل وضوح، لا مجال إلى عودة النزعة الاستئصالية العقيمة تحت أي ّ ذريعة كانت.
وإذا ما نظرنا إلى أبعد من ذلك، فلا مناص من التسليم بأنّ جلّ التونسيين قد فقدوا الثقة في النخب السياسية عموما، وفي العمل السياسي الحزبي. وليس من العسير أن نفهم أن ترسّبات الحراك الاجتماعي و المواطني خاصّة مع الفاعلين الشباب والجدد ، وتقاطعاتهم الأفقية الأخيرة في جانفي الفارط كانت بصدد إبراز فاعل سياسي جماعي جديد بدأ يغادر حدود مطلبيّته الضيقة ويطرح مسألة مشروعية الحكم ومؤسساته وعدالة السياسات العمومية ووجّه إنذاره للمنظومة الخرساء . كما ما انفكت تبيّن أنّ «الهوامش» والمبعدون ليسوا عبئا على الدوّلة وليسوا خطرا على الديمقراطية كما تسوّق إلى ذلك مقاربات أحادية حريصة على عدم فتح الفضاء العمومي . إذ ما فتأت المقاومات المتنوعة تكشف ، أنّ الحركة الاجتماعية التحتية فاعل حيوي يتطلّع دخول مجال الفعل السياسي .
إن دخول الفاعلين الجدد هذا الحقل هو احدي شروط الخروج من الأزمة العضوية التي تلازمنا منذ 2011 و التي لم تنجح النّخب السياسية في حلهاّ لأنها رفضت ميلاد الجديد بعد موت القديم , ولأن حلّ هذه الأزمة يقتضي كسر الطوق عن الفضاء العام ودمقرطته وجعله متاحا للجميع. ولا مجال هذه المرة لإقصاء هؤلاء الفاعلين , بل من المهم أن يكتسبوا بدورهم موارد وقدرات جديدة لفعلهم السياسي المقبل وأن يتنظموا بصيغ جديدة ومبتكرة ويقتحموا مجال التغيير من داخل المؤسسات .
الراّبعة، حضارية : فنحن مرّة أخري أمام اختبار لاقتدارنا الدّيمقراطي، ولمدى إيماننا بالقيم الديمقراطية، وبدولة المؤسسات، وقبولنا بالاختلاف، أو ميلنا الى حكم الرّجل القوي حتى وإن حرص على العدل. فالحكم بيد رجل واحد، أيّا كانت دوافعه، لا يمكن قبوله من عقل ديمقراطي. ولن نستطيع أن نؤسس من خلاله لمجتمع حرّ وتعدّدي , فالشخصية التي تنشأ على التسلطية في كلّ مجالات الحياة الاجتماعية تميل الى الانقياد الأعمى والعدوانية اتجاه المختلف وتظلّ مسكونة بالحاجة إلى قيادة تجرّها. وفي ذلك عقبة أمام تشكّل مواطنة حرّة. وقد عانينا كثيرا في تراثنا العميق وحتى الحديث من إرث الدوّلة السلطانية وسطوة الزعيم الأوحد.
مثل هذا التحدي لا يزال منذ بدايات عصر النهضة يحاصر فضاءنا الحضاري الاسلامي والعربي وأصبح مع موجة الانتفاضات العربية الأولى ثم الثانية مدرجا في أجندا التحوّل الديمقراطي . ومرة أخري تعود تونس إلى صدارة الاهتمام في المنطقة العربية لأنها تفتح اليوم مسارا تجريبيا سيكون عنوانه الأبرز العلاقة بين المجتمع والدوّلة في سياق تحوّل ديمقراطي عسير , فأملنا في ثورة تونس المجيدة أن تكون تحوّلا حضاريا عميقا ومساهمة كونية ما بعد استعمارية لا قوسا سرعان ما يغلق .
لا شكّ أننا نعيش مرحلة متحرّكة ستتسارع فيها الأحداث وتتطور فيها القراءات والمواقف ولأننا أمام فرصة تاريخية فعلينا أن نفكرّ، دون وصاية، في ما هو آني أي تحويل ما بعد 25 جويلية إلى مسار تغيير ديمقراطي تعددي وتشاركي يضمن الحريات ويمأسس قانونيا محاربة الفساد في الدولة والمجتمع، وعلينا كقوي تغيير ديمقراطية و اجتماعية أيضا أن نفكر في ما هو قادم لا فقط كأفراد أو ككيانات جماعية صغيرة متنافرة تتنافي إلى حدّ القطيعة , بل كقوة جماعية سياسية ومواطنية واجتماعية تمسك بمهام المرحلة كحدّ أدني مشترك , وسيبقي ذلك مشروطا بمدي استيعاب الاحزاب السياسية التقدمية للدرس الجديد وبنجاح الحركات الاجتماعية و المدنية في التحوّل الى قوة تدخّل سياسية وفي الجسور التي لا بدّ أن تمتدّ بين جزر المقاومة المتعدّدة , فالخطاب المعادي للتنظّم و النزعات الفئوية الضيقة والشخصنة لا تنبؤ بمستقبل مطمئن للديمقراطية في بلدنا حين تحلّ ساعة المرور من حماسة الشارع الي بناء المؤسسات .
ان المطالبة بضرورة توفر ضمانات لعدم انتكاس التجربة الديمقراطية لا بدّ ان تقترن بالعمل المضنى على تشكيل السلطة المضادة التي تقف في وجه كلّ انحراف، وقد يبدو اليوم الخوف من هكذا انحراف مشغل مناضلي حقوق الانسان والمدافعين عن الحريات , فإنه سيعني غدا فئات اجتماعية و عموم المواطنين والفقراء وأصحاب الحقوق الاجتماعية حين يستأنف الاحتجاج الشعبي زخمه ضدّ منظومة الهيمنة الاقتصادية والطبقية وضدّ السياسات الليبرالية , فالطلب الاجتماعي للدولة الرّاعية ولسياسات تنموية جديدة موضوع صراع هيكلي عميق وهو لا يختزل المشروع السياسي المستقبلي للتحرّر والانعتاق الاجتماعي والمساواة فقط في تعارض بين خير مطلق وشرّ مطلق بل يريد تحويل العدالة و الحدّ من الفوارق إلي هدف السياسات البديلة. من المؤكّد أننا في حاجة للعودة الي هذا الجدل في الايام القادمة. لأن تونس أفضل بعد 25 جويلية ممكنة وعلينا البناء على هذا الأمل.
25 جويلية المنعرج ؟ مقدمــات للفهم
- بقلم المغرب
- 11:03 03/08/2021
- 2530 عدد المشاهدات
بقلم: ماهر حنين
فاجأت قرارات رئيس الجمهورية الأخيرة خصومه ومنتقديه من النّخب الاسلامية والليبرالية واليسارية والأكاديمية على حدّ سواء،