القانون يخطئون حين يرجعون الظواهر السياسية إلى مقولات قانونية شكليّة وينسون جوهر السياسة التي ليس القانون إلا أداة من أدواتها، إذ ليس للقانون في الأغلب من دور سوى تبرير ميزان قوى إما أن تستفيد منه فئة مخصوصة وإما أن يكون في صالح المجموعة الوطنية بكل أطيافها. وفي قضية الحال فإنّ الدستور الذي وضع سنة 2014 كان من الصنف الذي لا يخدم إلا حركة النهضة ومَن في فلَكها، لأنها كانت تعرف حق المعرفة أنّها لا تمثّل أغلبية أفراد الشعب التونسي، بل أنّ رصيدها الانتخابي لم ينفكّ يتراجع. ومعنى ذلك بكل بساطة أنّ الانقلاب الأخير هو انقلاب على الانقلاب الذي تمّ على المصلحة الوطنية العامّة. وكان ذلك على مراحل:
- بدأ الانقلاب حين اعتبرت حركة النهضة إثر انتخابات المجلس التأسيسي أن التزامها بوضع دستور جديد في غضون سنة واحدة كان التزاما أخلاقيا وليس قانونيا، وهو اعتراف منذ تلك اللحظة بأنّها عديمة الأخلاق
- وتواصل الانقلاب حين اتّفق زعيم النهضة ورئيس نداء تونس في باريس على صفقة يسمح بموجبها للباجي قائد السبسي بتولي رئاسة الجمهورية رغم تقدّمه في السنّ، في مقابل إشراك النهضة في الحكم، تنكّرا للمواقف المعلنة من الطرفين
- وكان أخطر انقلاب تلقّي النهضة للأموال الطائلة من الخارج وتوظيفها لشراء الذمم في الانتخابات، وفي تسفير الشباب التونسي للمحرقة السورية، وفي التشجيع على نشر الفكر الظلامي الذي أتى به شيوخ البدو والبترول
- وتواصل الانقلاب على مصلحة المجموعة الوطنية بالحصول على تعويضات غير مشروعة عن نضال يصبّ في ما ينافي قيم الحرية والمساواة والعدل، وبتوظيف أبناء الحركة، بصرف النظر عن كفاءاتهم، في المناصب الحكومية وعلى راس الشركات العمومية وفي الوظيفة العمومية، وبثّهم في مختلف أجهزة الدولة ليكونوا عَيْنا لها وأداة لتجسيم أغراضها
- ومن مظاهر الانقلاب على ثورة ديسمبر 2010- جانفي 2011 التي لم يشارك فيها الإسلامويون تحالف النهضة بشتّى الطرق مع المعطّلين لإنتاج الفسفاط والبترول، ومع لوبيات الفساد والتهريب والاقتصاد المافيوزي الموازي، وتدجين القضاء للتغطية على جرائمها وليكون في خدمة مصالحها هي دون مصالح الفئات الضعيفة
تلك هي بعض مظاهر الثورة المضادّة أو الانقلاب الذي قادته النهضة متسلّحة بمقولات قروسطية تمجّد الخلافة وتعادي نظام الدولة الوطنية ذات القوانين الوضعية الصرفة. وكلّها بعيدة كل البعد عن الثقافة الديمقراطية التي لم تعرّف عند أصحابها وفي الفكر السياسي الحديث بأنّها مجرّد تنظيم أحزاب وانتخابات وإقامة برلمانات. ولذا يجدر بنا أن نذكّر بأنّ بريطانيا ليس فيها دستور ونظامها ديمقراطي، وبأنّ الجمهورية الإيرانية ليست ديمقراطية رغم تنظيمها لانتخابات دورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكيان الصهيوني رغم ادّعائه الديمقراطية وهو القائم على الميز العنصري والإيديولوجيا الدينية.
وعلى هذا الأساس فإنّ الانقلاب على الانقلاب عَوْد بالأمور إلى نصابها، على شرط أن لا يكون مدخلا لحكم العسكر ولحكم المستبدّ ولو كان عادلا. وسترينا الأيام القادمة إن كنّا على الطريق الصحيح المؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي والطمأنينة النفسية والرفاه الاقتصادي والرقيّ الحضاري، أم إنّ الإجراءات التي اتخذها رئيس الجمهورية ليست سوى نكسة أخرى تضاف إلى النكسات التي تُنضج الوعي الشعبي لا محالة. وهي لئن كانت في حال فشلها تؤخّر الحلول الناجعة، فإنّها لا تقضي على توق الشعب إلى الحرية والكرامة وإلى إزاحة المتاجرين بالدين بكلّ صلف والمصطفّين وراء القوى الرجعية.