إلى هذا النوع الخاص من الصعوبات، بكل هذه الكثافة والتعقيد وخاصة غياب الأفق؟ مع الإشارة المسبقة والضرورية إلى أن صعوبات السياسة مسألة طبيعية ملازمة لكل بحث عن الحل المناسب للواقع المعقد، لكن ليس بهذا الشكل الذي تعيشه تونس.
كما أن هناك تذكير ثان، يهم النمط الديمقراطي كأسلوب في تنظيم المجتمع وتسيير الدولة. حيث يختلف كليا مع النمط السلطوي الذي عرفناه قبل 14 جانفي، من حيث إيكاله مبدئيا للمجموعة مسؤولية حل مشاكلها بنفسها، بينما يسلم المجتمع المغلوب عل أمره شأنه للحاكم المستبد، الذي يدير التناقضات عن طريق العصا والجزرة، ولا يسمح بأي خروج عن دائرة قراره الذي ينفرد به.
أي أن اعتماد الديمقراطية يرتكز على القبول المسبق بأن إرجاع الأمر السياسي للمجموعة ستكون صعوباته أكبر. ومن أجل التلافي النسبي للصعوبات ترتكز الديمقراطية على التكثيف من آليات إدارة الاختلاف، بطريقة تهدف إلى الوصول إلى كون وجود التناقضات، الذي هو أمر طبيعي، لا يمكن أن يعطل سير الحياة العامة للمجموعة.
عصارة تجربة الشعوب مدة قرون في ما يخص الديمقراطية يتمثل في هذه النتيجة البسيطة والخطيرة. تلك المتمثلة في أن لا شيء يوقف سير مؤسسات الدولة القائمة على أساس القانون وقواعد اللعبة الديمقراطية التي تم اعتمادها.
أي أن المؤسسات في تلك التجارب أعلى وأرقى وفوق الأحزاب والأشخاص، مهما كان دور الأشخاص ووزنهم. فشارل ديغول مثلا الذي صنع الجمهورية الخامسة الفرنسية قطعة - قطعة وعلى قياسه الشخصي أخرج من السلطة عن طريق انتخابات الجمهورية الخامسة لأن في الأثناء أصبحت مؤسسات تلك الجمهورية شأنا فرنسيا. ودونالد ترامب الذي طغى وفرعن وضرب عرض الحائط بكل قيم الديمقراطية والجمهورية الأمريكية أخرج من السلطة بآليات الجمهورية والديمقراطية الأمريكية، تلك التي وصل بها إلى الحكم.
إن هذه الحصيلة الثقافية فيما يهم تنظيم حياة المجموعات تمثل روح الرقي الحضاري العصري: لا شيء يعلو فوق شأن الدولة المؤسساتية.
والمبدأ في هذا الأمر احترام قوانين اللعبة مهما كان الموقف منها. إلى أن يأتي تغييرها.
اما بالنسبة للمجتمعات التي تجتاز تجارب انهيار أنظمة كانت قائمة، وتدخل في مرحلة إعادة بناء مؤسسات، فهناك من يطرح صلبها مسألة شرعية «الانقطاع» المنجر عن الانهيار، وهي مسائل مغلوطة، لأن الأهم في الأمر ليس «الشرعية» وإنما «الانهيار»، وما يترتب عنه من ضرورة إعادة البناء. كما أن الأهم ليس في «أسباب الانهيار» وإنما في حدوثه، ذلك الذي يحصل في كل الحالات بدون استثناء لأنظمة كانت تعتبر نفسها قلاعا لا تزعزع أبدا، لكنها سقطت كقصور الورق، ليصبح من بعد ذلك البعض من أتباعها يبكون حول «شكونو اللي طيحها؟ البرويطة وإلا الفايسبوك؟» بينما هي «سقطت وانتهى».
يبقى سؤال آخر مطروح. سؤال عام وليس خاصا بتونس اليوم بالذات. حول ما إذا كانت الأطر والآليات المؤسساتية القائمة (والتي هي نتيجة دستور 2014 في ما يخص تونس وكذلك القانون الانتخابي لسنة 2011) قادرة على تمكين أفضل الخيارات الوطنية من الوصول إلى الحكم ومن ممارسة السلطة بالشكل المطلوب. والجواب طبعا لا. حيث لا توجد في أي مكان ولا في أي زمان صيغة مؤسساتية مثالية. أي في أغلب الحالات هناك انفصام وانقطاع بين الحل المطلوب والسليم لمشاكل الناس وبين من بيده الحكم. لأن اختيار من سيحكم لحظة انتخابية. وهي إما لحظة سليمة تأتي كتتويج لحوار واسع ومعمق ووعي شعبي واعلام نزيه وممارسة ديمقراطية للعلاقات صلب المجتمع وتفكير مفتوح وانتشار وازدهار ثقافي وانفتاح حضاري على التجارب، وكذلك كوقوف قانوني وعملي وفعلي في وجه المال الفاسد والمافيا والاحتكار والجهويات والحيف الاجتماعي. وإما الانتخابات لحظة منقوصة ومخلة في جزء هام من جوانبها ومحتوياتها واساليبها وغير سانحة لبروز اطروحات فكرية وسياسية صميمة ولتقدم شخصيات تتمتع بالكفاءة والقدرة على التصور والتخطيط والفعل وعلى تعبئة فئات واسعة من المجتمع وعلى الدفع بالبلاد نحو آفاق واعدة ومجددة ومحمسة للهمم ومحركة للسواكن، وعندها تكون الخيبة. لكن لا يتمثل الحل في اتهام البناء المؤسساتي، الذي بالتأكيد من الممكن أو من الضروري تغييره نحو الأفضل، لكن أصل الداء يبقى في الفراغ السياسي الذي يسمح للأجسام الغريبة من اكتساح الساحة وملأ الفراغات. أي أنه يمكن أن نغير كما نشاء القوالب المؤسساتية، أما إذا استحال إيجاد ما يجب أن نملأه بها ستبقى قوالب مؤسساتية فارغة رغم جمالها وسواد عيونها ورشاقة قوامها.
نحن الآن تماما مثل التي «خانها ذراعها قالت مسحورة». عوض أن نقر أن بناءنا الديمقراطي يشكو نواقص كبيرة وأننا أحزابنا ليست مشاريع وإنما إعلانات مجانية عن مشاريع وأننا لم ننجح في توضيح الفكرة الوطنية كما ينبغي وأننا أعطينا صورة سلبية جراء تكالبنا على حب التزعم ونحن فارغون وأننا لم نطمئن الكثير حول حسنا بالدولة والمسؤولية الوطنية وأننا أضعنا في قت عزيز أعز المكاسب الانتخابية التي مكننا منها الشعب فعبثنا بها وأننا ركبنا رؤوسنا واعتبرنا أن لا من قبلنا ولا من بعدنا بينما نحن كلنا مجرد متمتعين بهدية ديمقراطية قدمها للبلاد ولمجموع التونسيين شباب الجهات الفقيرة وإذا لم نعترف بأننا لم نقدر على التجاوز الأيديولوجي من أجل الوطني وإذا لم نقر بأن لا بناء جديد دون الوقوف على الثغرات الفادحة للتجربة، فإن «الشوشرات» المتشابهة في تواترها وكثرتها بدون أي بركة سوف لن تشفي أي غليل وستبقي التونسيين في حالة ترقب، صحيح ترقب ربما لم يقطع نهائيا مع الأمل، لكنه يزيد كل يوم اختلاطا بالألم.
البحث عن الحل السحري المؤسساتي كمؤشر عميق عن الفراغ الفكري والفشل السياسي
- بقلم بوجمعة الرميلي
- 10:20 02/07/2021
- 1020 عدد المشاهدات
وجع الرأس في ما يهم الوضع التونسي يأتي أساسا من عدم التوصل إلى الجواب عن السؤال التالي: ما هي العناصر التي أدت