أنطوان دي سانت
أكزو بيري
تمر اليوم, 8 ماي 2021 , بالتمام والكمال ست و ثلاثون سنة على وفاة الراحل الطّاهر بن عمّار الوزير الأكبر رئيس الوزراء الذي قاد مفاوضات الاستقلال الذاتي( جوان 1955) و بعدها مفاوضات الاستقلال المؤرخ في (20 مارس 1956).
و ترأس قبلها أكثر من وفد إلى فرنسا للدفاع عن المطالب الوطنية, من قبيل الوفد الدستوري في ديسمبر 1920 .
ترأس الطّاهر بن عمّار الحكومة مرّتين في ظرف سياسي و نضالي وطني اتسم بالحركية وإتساع دائرة الخلافات بين الفرقاء الوطنيّين بما أدّى للاقتتال والتناحُر على مرأى و مسمع من المستعمر الذي ظلّ في الخطوة الأولى يتحكّم في الأمن و الدفاع و الخارجية, وأصبح في المرحلة الثانية طرفا في الصّراع.
و قد بذل الطاهر بن عمّار جُهدا سخيا واستمد من قدرته على تصوّر الحلول ما جنّب البلاد إتساع تداعيات الخلاف و مزيدا من إراقة الدماء, فآستعمل مثلا جهاز الدولة لتلافي اغتيال الزعيم صالح بن يوسف مُساعدا إيّاه لمغادرة البلاد حتى لا تُزهق روحهُ.
وقد يكون ذلك واحدا من الأسباب التي ألّبت ضده إرادة التشفّي فيما بعد (1958) صحبة زوجته في إطار قضيّتين مُركبتين تركيبا قبيحا انساق جانب من قضاء البلاد في ترتيبها لهما .
وجاءت عبارته الشهيرة لرجال الأمن الذين حضروا لإيقافه «ضعوا الأصفاد في اليد التي أمضت على وثيقة الإستقلال» ...
إنّ الطاهر بن عمّار هو بلا منازع جزء ثابت من ذاكرتنا الوطنية الجماعيّة رسّخ نفسه ضمنها بجليل أعماله وإسهاماته الرفيعة في مسيرة تونس نحو إستقلالها.
فعلاوة على قيادته لمفاوضات الاستقلاليْن الذّاتي و المؤرخ في (20 مارس 1956) كوزير أكبر رئيسا للوزراء, وعلاوة على إجتهاده المثابر لإطفاء لهيب الأحقاد مُحافظا على خطّ وتمشّ مسؤولين رغم أنه كان أقرب لخطّ رئيس الحزب الدستوري الجديد المرحوم الحبيب بورقيبة, فهو من تمّ في ظل حكومته استعادة الأسلحة من المقاومين التونسييّن , بآعتبار أن ذلك شرط من شروط السلطات الإستعمارية لمواصلة التفاوض.
ذكّرتُ بهذه الإسهامات بالتحّديد لأنها تختزل رصيدا من رباطة الجأش ومن الإلتزام الوطني,و تحيل على معدن هذا الوطني الجسور.
ويجرُّنا الحديث عن إستقلال بلادنا اإلى التأكيد مجددا إلى أن بلُوغهُ كان عملا تعدٌّديا تصورًا و تنظيرًا ومواكبةً وكَرّا و فَرّا و ضغطا على العدوّ و إنفتاحا إزاءه, وأن كُل من أدلى بدلوه في هذا المسار الطّويل والشّاق و تحّمل لَقَاءَ ذلك نصيبه من الأذيّة و القمع ودفع كلفة هذا المُنجَز الوطني العظيم, هو بانٍ من بُناة عزة تونس وعلوّ رمزيتها.
ونحن مدينون له اعترافا له بالنّضاليّة والوقفة الحازمة لتخليص البلاد من الإستعمار الذي نهب خيراتنا وإستعبدنا.
ومن علامات كِبر الطاهر بن عمّار أنه غادر الساحة السياسية بعد أداء مُساهمته في تحقيق الإستقلال بمحض إرادته, ولم يجعل من تعاطي السلطة نشاطا قارّا يحترفه, فعاد إلى نشاطه الفلاحي يُطور أساليبه و يُعصرها للنهوض بهذا القطاع الذي كان يُمثل قوام إقتصاد البلاد.
ومع ذلك, فلم تُخطئه حملةُ تصفية الحساب, و لم تُخطئ زوجته كذلك فعرفا الإعتقال و الغبن المجاني.
أن نثير ذكرى أحد رجالات تونس الذين أسهموا ,بما أمكن , من المواقع التي تحملوها في تحرير الوطن أو حماية استقلاله و بناء عزته ليس معناه عبادة الأشخاص أو التطبيل لهم أو تحميلهم مالا يليق بمقامهم, إنما هو استثمارٌ في الذاكرة ليس خدمة للماضي و لا عبادة له إنما هو تنشيط «لهذه الذاكرة خدمة للمستقبل واستلهاما من الأعمال الجليلة وشحذًا للعزائم الصادقة و تثبيتا لنضالية مُثابرة هي أفضل ما تُواجه به العقبات والمخاطر.
فإذا كان كِبارنا و كبيراتنا قد نجحوا في حلحلة أوضاع زمانهم و قارعوها بكل رباطة الجأش و الهمّة, فَلِمَ لاَ تحدُونا نحن ذات عزيمة البذل والإجتهاد والمُمانعة لننهض بما يدعم مسيرتنا ويفتح الأفاق عريضة أمامنا وأمام أجيالنا الناشئة ؟
يقول إدغار موران:
«كلُّ شخص يعيش ليحفظ الماضي حيًّا
وليعيش الحاضر و ليعطي الحياة للمستقبل»
ويظلُّ إستثمارنا في الذاكرة سبيلنا للتعبئة الجماعية ورصّ الصفوف حول المشاريع الكُبرى و النهوض بها بانخراط واسع.
وهو كذلك سبيلنا لاكتساب وعي مُواطني مُحصِّن وراق يُسهم في قوة الإقدام على العمل الباني لتجسيد الأهداف الجماعية النبيلة.
وثَبت عبر التاريخ بأن إرتقاء الأمم ليس واردا مادامت تدُير ظهرها لذاكرتها الجماعيّة و غير حاملة لها حمْلا إستنتاجيا مُتواصلا.
ومن يجهل ماضيه لا يملك كل مقومات التأسيس لبناء مُستقبله وإستيعاب حاضره, ذلك أن معرفة الماضي ليست فعلا معزولا عن مسيرة الإنسان لخدمة مسار التخطيط لمستقبله و تحديد أهدافه المُقبلة.
وقديما قال سيناك :
«على الماضي أن يُرشِد المُستقبل»
وتبقى معرفة الماضي فعلاً إنسانيا طبيعيّا و مكِونا أساسيا لقوة شخصية الفرد والأمة على حد سواء.
ألم يَقُل أرتور ميلر :
«إن الإنسان خُلق ليتَذكَّر»
و سيظل كبارُ و كبيرات تونس سواء كانوا سياسيين أو مبدعين أو باذلين بالفكر والسّاعد في شتّى الأنشطة نِبْراسا يضيء الدّرب و ينير السُبُل و يفتح أبواب الإتعاض و السّير على طريق البذل.
يقول ألبار جاكار ْ:
« ليس محمولا عليّ أن أكون أقوى من الآخر, بل علي أن أكون أقوى من نفسي بفضل الآخر».