حصل انطباع عام أن محصلة عقد لم تكن سوى خيبات بعضها معطوف على بعض. شاعت فيها الانكسارات واختفت الانتصارات. وسارع الكثير إلى التوقع بفشل ربيع العرب بل وحتى الاحتفاء بذلك، تماما كما احتفوا من قبل بفشل التجربة القومية، ثم بعدها اليسارية، ليبشروا لاحقا بنهاية «الإسلامية».
بيد أن المدقق الحق، والناظر بإنصاف، سيتوقف عند تعقيدات مشهد، أكبر من أن يحكم عليه بالفشل والخيبة والنهايات الكارثية.
إذ تبدو العشرية المنقضية، التي دشنتها تونس بشعلة ربيعها الذي أضاء عتمة زوايا المنطقة العربية المظلمة- فقرا وفسادا اجتماعيا، واستبدادا ودكتاتورية سياسية، وفشلا وعجزا تنمويا، وإهدارا وتبديدا عبثيا للثروة البشرية والمادية- تبدو تأسيسا لمرحلة جديدة في تاريخ المنطقة وشعوبها، مشرقا ومغربا.
لا أحد يمكنه اليوم أن يزعم أن المنطقة هي ذاتها قبل عشرة أعوام. فقد أطيح خلالها بأنظمة عاتية، من ابن علي تونس إلى قذافي ليبيا، مرورا بمبارك مصر وصالح اليمن. ولئن فشلت هذه التحولات في بناء وترسيخ أنظمة ديمقراطية، فإنها لم تبقي المجال فسيحا أمام الدكتاتوريات لاستعادة نفوذها على تلك الدول. أكثر من ذلك انطلقت موجة ثانية من الربيع العربي خلال العامين الماضيين، فخلخلت النظام السياسي وأركانه التقليدية في لبنان، وفرضت تحولات في الجزائر لا تزال لم تكتمل، كانت لوقت طويل غير متخيلة بسبب طبيعة النظام وشبح العشرية السوداء التي عاشتها البلاد، في نهاية الألفية الثانية، إلا أن حراكا شعبيا مليونيا غير مسبوق في التاريخ المعاصر، خلط أوراق السلطة وأطاح ببعض ركائزها ولا يزال يدك قواعدها المتمنّعة دون هوادة، رغم الإرباك الذي طرأ على هذا الحراك الشعبي التاريخي، بسبب تفشي وباء كورونا. ولقد مثّل الحراك الشعبي في العراق، حلقة أخرى في سياق الربيع العربي، في موجته الثانية، حراك رفع شعارات غير مسبوقة في رفض النظام الطائفي والفساد والنهب الذي تعرضت له البلاد على مدى خمسة عشر عاما، عقب إسقاط نظام صدام حسين. أطاح الحراك الشعبي العراقي، الذي استعاد زخم «ثورة العشرين»، بنظام سياسي، وداس على مسلمات كان لوقت من المحرمات المس به في منظومة حكم باطشة عبر الميليشيات، رافضا الطائفية والمرجعيات والنفوذ الإيراني والأمريكي على حد السواء، ومطالبا باستعادة الوطنية، نظاما للحكم، وهو حراك مستمر تماما كما هو الشأن في الجزائر ولبنان، لم يتراجع زخمه، إلا مؤقتا بسبب وباء كورونا. ولم تكن السودان لتتخلف عن الموجة الثانية للربيع العربي، ولقد نجحت الاحتجاجات التي استمرت لأشهر طويلة في إزاحة نظام البشير عن الحكم، بعد عقود ثلاثة، كان فيها التداول على السلطة معطلا، والحريات مكبوتة، والتنمية مفقودة، والوحدة مهدورة. ولا يبدو النظام السوري المتضعضع، رغم الإسناد الروسي الإيراني والميليشيات الطائفية، إلا أن الثورة لا تزال تطبق عليه الحصار، وهو نظام في حكم المنتهي واقعا، فقد شرعيته الداخلية والخارجية، وبات مجرد ورقة للمساومة بين أطراف دولية طامعة في نفوذ ما في سوريا المفيدة.
تنهض تونس في هذه المناخات الإقليمية والعربية العاصفة سياسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا وصحيا، كتجربة لافتة. قد لا تقنع بها، ويخفت ألقها لديك، إذا ولجت في تفاصيلها، وتابعت التنازع الصبياني لبعض قواها السياسية، أو مشاهد التهريج في مجلسها النيابي وما يقع فيه من تجاذب. بيد أن المشاهد المنصف للوضع العام في صورته العامة سينظر بعين الارتياح للمنسوب المقبول للحريات العامة والفردية والذي يبز الديمقراطيات الغربية، أو مسار الانتقال الديمقراطي عبر مؤسسات منتخبة، أو محطات انتخابية متتالية حرة ونزيهة. وحتى بعض الممارسات التي قد تبدو مسيئة للمشهد الديمقراطي، هي في حقيقتها بعض التعبيرات غير الناضجة وغير العقلانية لهذا المسار، الذي يتعقلن تدريجيا، خاصة أن جل القوى، حديثة عهد بفضاء الحرية والمنافسة الديمقراطية.
هي عشر سنوات على هروب ابن علي، وليس عشر سنوات على سقوط نظامه. وقد احتاجت التجربة التونسية لسنوات ولا تزال لتفكك منظومة الاستبداد، وإقامة ركائز نظام ديمقراطي تعددي، عبر مسار انتخابي حر ونزيه، ودستور توافقي، ومؤسسات حكم تمثيلية، ومجتمع مدني قوي ومنيع، وصحافة حرة شرسة ومحصنة.
أما الحالة القلقة أو الأبعاد السلبية التي تواجهها التجربة عقدا بعد الثورة، فلا شك أنها واضحة، وتعود أسبابها لعاملين أساسيين. عامل اقتصادي اجتماعي ويفسر بأسباب ذاتية تعود لنقص خبرة وضعف أداء الطبقة السياسية وانحسار اهتمامها في قضايا التنازع الحزبي والسياسي. وهو أمر يجب أن تقدم فيه جميع القوى المعنية، السياسية منها والاجتماعية، وفي مقدمتها النهضة تقييما جديا، ومراجعة شجاعة. أما الأسباب الموضوعية فمتمثلة في قصر التجربة التي مرت على قيام الثورة والتي لا تسمح بتحقيق تحولات اقتصادية واجتماعية نوعية، في ظل بيئة إقليمية وعربية متفجرة، وانكماش في النمو الاقتصادي العالمي غير مسبوق بسبب أزمة اقتصادية مستحكمة تستمر منذ 2008، عمّقها بشكل كبير وباء كورونا الذي خلخل أركان الاقتصاديات العالمية، ولا يزال يضرب بقوة مقومات أسس الاقتصاد العالمي وقد يقوّض مرتكزاته التقليدية بالكامل.
وإذ يتداعى هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي سلبا على التجربة التونسية ويربك مسارها الديمقراطي، ويجعلها تجربة غير مكتملة، فإن عشر سنوات كفيلة أيضا بأن تكون للنخبة السياسية والاجتماعية في البلاد الشجاعة الكافية لتقييم شجاع، والتسليم بانتقال قيادي جيلي، يسمح لطليعة الحكم الجديدة باجتراح وابتكار السبل الكفيلة بتفعيل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية إعطائها الأولوية القصوى، وعطفها على المسار الديمقراطي الناجح والناجز من أجل استكمال أهداف الثورة الاقتصادية والاجتماعية. وكما انبسطت الثورة ديمقراطية ومؤسسات حكم منتخبة وتجربة سياسية ناجحة، لا بد من أن تستوي الثورة عدالة اجتماعية وتنمية اقتصادية وتوزيعا عادلا للثروة، وتثويرا للموارد البشرية. تونس الثورة تحتاج بعد عقد على ثورتها إلى تونس الثروة، ومدخل ذلك انتقالي سياسي جيلي، خصب الخيال، مبدع المبادرات، مقدم لا مدبر، متقحّم للمصاعب، مجترح لأفق جديدة، يواجه الإكراهات ولا يتكيف معها أو ينحني لها، يرى المستقبل أمامه لا وراءه.
تونس التي أطلقت الشرارة الأولى للربيع العربي، تحتاج وهي تلج العشرية الثالثة من الألفية الثانية، أن تستجمع شروط استقرارها وتألقها، وعوامل قوتها، وشروط نجاحها. فالمنطقة تستقدم موجة ثالثة من الربيع العربي، قد تكون عاصفة وعاتية وتدفع باتجاه تحولات سريعة وعميقة ومتغيرات استراتيجية. تحولات تجمعت كل أسبابها الذاتية والموضوعية. أنظمة حكم ونخب سياسية تبدو عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة المصيرية المطروحة في المنطقة، سواء لجهة العقد السياسي الاجتماعي المفكك، أو التسويات السياسية لدولة ما بعد الاستقلال المتآكلة، أو لانحسار الهوية الوطنية للدولة. وعمّق أزمة نخبة الحكم هذه، انكماش الثروات وتراجع الرفاه، وارتفاع نسق الاستهلاك ومتطلباته، ورخاوة البيئة الاستراتيجية للأمن القومي العربي، وانهيار شبه كامل للنظام العربي، وانفلات مطلق للسياسات الخارجية للأقطار وجموحها دون ضوابط، وضعها وجه لوجه في تناقض مع بعضها البعض وفي تعادي يتعمّق، يغذيه التطبيع مع الإسرائيليين الذين تحولوا من عامل تهديد دافع للتضامن والتماسك العربي، إلى عامل اختراق محرض على الانقسام والقطيعة وتفجير كل عناصر التقارب والوحدة في المنطقة.
لقد تماسكت تونس إلى حد كبير في مواجهات الإكراهات الداخلية والضغوط الخارجية، رغم أنها أرهقتها، فعضت على تجربتها الديمقراطية بنواجذها، دون تراجع. فتحولت منوالا ضاغطا على ما حولها، يغري بالتمثل، ويلهم المتطلعين للتغيير وما أكثرهم في المنطقة. نجحت تونس في رسم حد فاصل بين ما قبل 2011 وما بعدها. وحررت بهذا الحد الفاصل المنطقة من حقبة استمرت لعقود من الركود والفساد والدكتاتورية والأنظمة الهمجية والثروات المهدورة. ودشنت لحقبة جديدة لا تزال في بداياتها، ديناميكية التغيير والإصلاح فيها ضاغطة، وهلع الأنظمة السياسية المتحكمة واضح، وممارساتها القمعية مكشوفة لا حظ لها في التستر عليها، في ظل ثورة التواصل الاجتماعي. وكلما صمدت التجربة التونسية اليوم، كلما نهضت رائدة في قيادة التغيير وتعزيزه وتوسيعه في المنطقة. منطقة استجمعت اليوم كل شروط الاستئناف لمعركة الإصلاح والتغيير، في موجته الثالثة، إصرارا على الحق في أنظمة حكم معبرة عن إرادة شعوبها، ومؤسسات منتخبة، وحكما رشيدا ودولة وطنية مستقلة، ومنوال اقتصادي واجتماعي يكرس العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص.
يقيني أن تونس عشر سنوات بعد الثورة، في الطريق الصحيح، رغم الأخطاء الكثيرة التي تحتاج تداركا، والصعوبات والتحديات الجسيمة التي تقتضي حسن تدبير. أما تونس المثال فلا يمكن أن تتحقق وعمقها الاستراتيجي مريض، وبيئتها الإقليمية والعربية متضعضعة، وهي مكوّن من جغرافية إقليمية كلها ندوب عميقة تحتاج اندمالا، وتصدعات عنيفة تحتاج التئاما، لذلك تواكب تونس بإصرار معركة التغيير والإصلاح في موجتها الثالثة للربيع العربي، مذكرة شعوب المنطقة بأن هناك بديل عن الخراب وعن الاستبداد وعن الطغيان والفساد وإهدار الثروات، واستيلاب الإرادة، وأنها شعوب قادرة على التغيير وهي تستطيع..Yes they can ..إنه بيان من أجل التغيير من أجل الديمقراطية..الآن..وهنا.
تونس في ذكرى ثورتها: ربيع العرب المتجدد في موجته الثالثة
- بقلم المغرب
- 10:07 21/01/2021
- 1014 عدد المشاهدات
بقلم: جلال الورغي
عضو مجلس شورى النهضة
طوى الربيع العربي عقدا من الزمن، وطُويت معه حقبة من تاريخ العرب المعاصر، والمنطقة بآلامها وأحلامها.