بدأت تتحول تدريجيا من مسألة اقتصادية بحتة يتعامل معها الاقتصاديون من خلال السياسات الاقتصادية إلى قضية سياسية بامتياز وتمس الأمن القومي .
وترتقي القضايا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية إلى قضايا أمن قومي عندما يتوفر شرطان أساسيان الشرط الأول يخص مؤسسات الدولة لنعتبر أن كل المخاطر التي تمسها هي تهديد للأمن القومي باعتبار أن مؤسسات الدولة هي الحامي لوحدة الدولة ولأمنها .
الشرط الثاني الذي يجعلنا نضع القضايا الوطنية في مستوى قضايا الأمن القومي تهديدها للسيادة الوطنية ولاستقلال قرارنا الوطني في جميع المجالات .
وفي رأيي فإن الوضع الاقتصادي بدأ من هذا المنظور يتحول تدريجيا من مسائل وتحديات اقتصادية تخص مجال السياسات الاقتصادية لترتقي إلى قضايا مركزية تمس الأمن القومي.فمستوى المديونية وتراجع النشاط الاقتصادي والصعود الكبير للبطالة أصبح يهدد مؤسسات الدولة ومصداقيتها أمام الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين .
وفي نفس الوقت لابد أن نشير إلى أن العجز المتنامي والكبير في ميزانية الدولة ومستوى المديونية وخاصة مستوى خدمة الدين والذي تحول من عبء مالي إلى تحد كبير قد يتحول إلى أزمة مديونية ويدفع الدولة إلى طلب إعادة جدولة الديون .وجدولة الديون إلى جانب تعقيداتها القانونية وانعكاساتها السلبية على مصداقيتنا سوف تضعنا في وضعية نفقد فيها جزءا هاما من سيادتنا الوطنية على قرارنا الاقتصادي .فجدولة الدين تصاحبها شروط عديدة يطلب المانحون تطبيقها لقبول التأخير في دفع مستحقاتهم .
وفي رأيي فإن تدهور الوضع الاقتصادي قد خلق الظروف لتنضاف المسألة الاقتصادية إلى جانب قضايا الإرهاب ومحاربة الجائحة لتصبح قضايا تهدد الأمن القومي وتتطلب تعبئة كل مؤسسات الدولة وكل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لمواجهتها والتصدي لمخاطرها.
وحالة الطوارئ تشكل الرد القانوني والمؤسساتي والسياسي لكل الأخطار التي تهدد الأمن القومي .وفي هذا الإطار وكما كان الشأن بالنسبة لقضايا الإرهاب وجائحة الكورونا فإن هذا النداء لاعتبار الأزمة الاقتصادية كقضية أمن قومي والدعوة إلى إعلان حالة الطوارئ حولها يهدف إلى التوعية بحجم المخاطر التي نواجهها في هذا المجال والتي تتطلب توحيد الصف الوطني من اجل مواجهتها وحماية مؤسسات الدولة وسيادتنا الوطنية .
وسنقدم في هذا المقال بعض المقترحات والأفكار الأولية لمشروع حالة طوارئ في المجال الاقتصادي لسنتي 2020 و2021 .وهذه المقترحات تتطلب مزيدا من التفكير والتمحيص من أجل صياغة مشروع وطني لحالة طوارئ اقتصادية تلتقي حولها كل الأطراف والقوى السياسية والاجتماعية وتلتف حولها مؤسسات الدولة .
وقبل المرور إلى مقترحات مشروع حالة الطوارئ سنتوقف على المسارات التي أدت إلى الوضع الاقتصادي الحالي .
• في مسارات الأزمة الاقتصادية
إن الأزمة الاقتصادية التي نعيشها اليوم هي نتيجة لثلاث مسارات كبرى - المسار الأول انطلق في بداية الألفية ويهم انخرام نمط التنمية الذي وضعناه في بداية السبعينات والذي ارتكز على بعض التوازنات والاختيارات الكبرى لعل أهمها تشجيع الانخراط في التقسيم الدولي للعمل على قاعدة قيمتنا التفاضلية لقوة العمل الرخيصة . ولئن ساهم نمط الإنتاج في دفع النمو والتشغيل خلال ثلاثة عقود إلا أنه دخل منذ بداية الألفية في أزمة خانقة و يتطلب هذا المسار إصلاحات جذرية وبناء نمط تنمية جديد عجزت كل الحكومات منذ الثورة إلى حدّ اليوم على تحقيقه .
المسار الثاني للأزمة الاقتصادية التي نعيشها اليوم انطلق بعد الثورة وكان نتيجة السياسات المتبعة والتي نتج عنها انخرام التوازنات المالية الكبرى للدولة .
فبدأت توازنات المالية العمومية في التراجع أمام ضغط المصاريف والمطالب الملحّة من كل الجوانب والتي لم تقدر الدولة على إيقافها .وفي نفس الوقت عرف الميزان التجاري وميزان الدفوعات نفس الانخرام .
وسيكون الانخرام الكبير للتوازنات مدخلا لتطور كبير في المديونية والتي ستشكل في المستقبل أحد المخاطر الكبرى والأساسية للاقتصاد ولبلادنا بشكل عام .
أما المسار الثالث فيهم الانعكاسات الاقتصادية لجائحة الكورونا والتي - إلى جانب أثارها الصحية المدمرة - ستكون لها انعكاسات ومخاطر اقتصادية جمة.وقد بدأت الأرقام تعطينا نبذة عن هذه الانعكاسات وأولها التراجع الكبير للاقتصاد وللنمو لهذه السنة لتعرف بلادنا اكبر انكماش في تاريخها والذي قد يتجاوز نسبة %8-
وستكون لهذه الأزمة انعكاسات كبيرة على مستوى التشغيل وعلى حصانة المؤسسات الاقتصادية والاستثمار والتوازنات المالية الكبرى .
وسيختزل قانون المالية التعديلي لسنة 2020 وقانون المالية 2021 (والارقام التي قدماها) جملة المخاطر التي تهدد الاقتصاد الوطني وبلادنا بصفة عامة .
فقانون المالية التعديلي لسنة 2020 أشار إلى تراجع كبير في مداخيل الدولة يقدر تقريبا بـ%7 ليصل العجز إلى 14.9 مليار دينار ويمثل %13.4 من الناتج الخام .وهذا الانخرام الكبير لتوازنات ميزانية الدولة سينتج عنه حاجة للتمويل بـ21.5 مليار دينار .وقد أشارت التقارير المقدمة إلى أن الدولة نجحت في توفير جزء من هذه الحاجيات إلا أن جزءا كبيرا منها لازال مفقودا والحاجيات المتبقية تمثل قرابة 11 مليار دينار ويجب توفيرها قبل نهاية هذه السنة مما يشكل تحديا كبيرا للدولة وينذر بمخاطر كبيرة قادمة .
ويمكن أن نسوق كذلك نفس الملاحظات بالنسبة لقانون المالية لسنة 2021. فلئن ستعرف نسبة النمو تحسنا هاما لتصل إلى %4 حسب توقعات المؤسسات الدولية ليشهد عجز ميزانية الدولة تراجعا إلى 8.8- مليار دينار ليمثل %7.3- من الناتج الخام فإن المخاطر ستواصل تهديد الاقتصاد الوطني .
فالحجم الذي وصل إليه مستوى خدمة الدين سيتطلب توفير حاجيات تمويلية تقدر بـ19.5 مليار دينار ومنها 16.6 مليار دينار على المستوى الخارجي . ويشكل توفير هذه الحاجيات تحديا كبير للدولة ومؤسساتها في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد العالمي وتنامي نسبة المخاطرة بالنسبة لاقتصادنا أمام كبار المستثمرين.
وقد ساهمت هذه المسارات الثلاثة في التدهور الكبير للوضع الاقتصادي مما ينذر بمخاطر كبيرة وتحديات جمة. ومن هذا المنطلق جاء مقترحنا في إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية لتعبئة مؤسسات الدولة والقوى الوطنية لمجابهة الخطر المحدق .
وسنقدم فيما يلي بعض المقترحات لمحتوى هذه المبادرة .
• الأهداف الإستراتيجية:
في رأيي لابد لحالة الطوارئ الاقتصادية أن تعلن النفير لمؤسسات الدولة والقوى الوطنية والاجتماعية لتحقيق هدفين استراتيجيين مهمين وهما :
-اعتبار صحة الاقتصاد واسترجاع عافيته مسألة أمن قومي
-حماية الدولة التونسية من أزمة مديونية يمكن أن تتسبب في ضياع سيادتنا على قرارنا الاقتصادي .
المبادئ
إن الأهداف الإستراتيجية التي وضعناها لهذه المبادرة لابد لها أن تتجسد في مبادئ واضحة تقود عمل مؤسسات الدولة خلال السنتين القادمتين – ويمكن أن أشير إلى المبادئ التالية :
-حماية مؤسسات الدولة ودعمها أمام محاولات الإرباك وكذلك الوهن والضعف الذي تعرفه لحماتيها من الانهيار .
-دعم المؤسسات الاقتصادية وحمايتها في الظروف الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد وتمكينها من الشروط الأساسية للعودة إلى النشاط والاستثمار .
-الوقوف إلى جانب الفئات الهشة وحمايتها أمام الجائحة
-توفير الإمكانيات الضرورية للقطاع الصحي لمجابهة الجائحة
-دعم الدولة ومؤسساتها في مواجهة أزمة المديونية
العناصر والسياسات
وفي رأيي فإن حالة الطوارئ لابد أن تشمل اتفاقا على السياسات والتوجهات الكبرى التي يجب الاتفاق عليها وتطبيقها خلال السنتين القادمتين .ومن جملة هذه السياسات والاختيارات نقترح :
-تعليق كل مصاريف جديدة للدولة لسنتي 2020 و2021 ماعدا مصاريف الاستثمار والدعم الاجتماعي
-مواصلة دعم الدولة للفئات الهشة والمتضررة من الجائحة
-تسريع الاستثمار العمومي من خلال التصويت سريعا على قانون الطوارئ الاقتصادية
-تكوين لجنة للتسريع بتمتيع المؤسسات الخاصة بضمان الدولة لتمكينها من التمويل عند البنوك لدفع الاستثمار
-مراجعة ديون الدولة تجاه المؤسسات العمومية مع ضبط دقيق للأولويات خلال السنتين القادمتين
-مواصلة دعم الدولة للمؤسسات العمومية شرط تقديمها برامج واضحة لإعادة الهيكلة والإصلاح
-وضع أهداف مرقمة وواضحة لمحاربة التهرب الجبائي ودعم المداخيل المالية للدولة
مواصلة البنك المركزي للعب دور نشيط في تمويل الاقتصاد
-عمل هام للدبلوماسية الاقتصادية من أجل الخوض مع بعض شركائنا الاقتصاديين في إمكانيات تأجيل دفع الدين .
-على ضوء هذا البرنامج فإن فتح قنوات التفاوض مع المؤسسات المالية الكبرى كل صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات الأخرى .
في تنظيم هذه المبادرة
إن خطورة الوضع تتطلب من أعلى مؤسسات الدولة كرئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة طرح هذه المبادرة وتجميع كل مؤسسات الدولة والقوى الوطنية والاجتماعية حولها من اجل بناء توافق كبير حولها كما كان الشأن في محاربة الإرهاب ومجابهة جائحة الكورونا .
أن خطورة الوضع الاقتصادي وبداية ارتقاء الأزمة الاقتصادية إلى تهديد الأمن القومي يتطلب إجابات في مستوى هذه المخاطر .وتشكل مبادرة إعلان حالة طوارئ اقتصادية لسنتي 2020 و2021 ردا من شأنه أن يجمع القوى الوطنية والاجتماعية حول أهداف حماية الاقتصاد وسيادة القرار الوطني .
نداء من أجل حالة طوارئ اقتصادية 2020 - 2021
- بقلم حكيم بن حمودة
- 09:50 26/10/2020
- 1703 عدد المشاهدات
تتوالى الأرقام والمعطيات لتؤكد على التدهور الرهيب للوضع الاقتصادي.وفي رأيي فإن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا منذ سنوات