وإن كنّا نعيش فوضى الفتاوى وكساد الخطاب الديني وتكلّسه من قبل حين جلس الجهلة والمتشدّدون وأصحاب الفكر الضيّق على كراسي الخطاب الديني في الإعلام خاصة وحين أحاط الساسة جنباتهم بشخصيات دينيّة مرتعشة اليد والموقف والفكر ..
ومما سبق كان من نتيجته تعاسة ما نراه اليوم من فهم قاصر للدين ومقاصده وضيق أفق جليّ ..فانقسم الرأي العام حول النوازل الدينية زمن الكورونا على شاكلة إنشطارهم حول فتاوى إيقاف صلاة الجمعة والجماعات وإغلاق المساجد فتقبّلها البعض لأنّ مقصدها ليس محاربة الشعائر بل حمايةً للناس من فيروس كورونا، ورفضها البعض بشدّة بدعوى أنّها فتوى تحارب الدين وتغلق دور العبادة قصدا لمنع الذكر والدعاء وهؤلاء لم يكن لديهم أدنى استيعاب لحقيقة الفيروس وكيفية انتقاله، كما كانت بدائلهم مضحكة فلم يكن حفظ النفس البشريّة أولى أولوياتهم بل كان في ذهنيتهم أداء الشعائر وإن كلّفهم ذلك أرواح الناس فتجادلوا حول هذه الإشكاليات فأفتى البعض بصلاة الجماعة والجمعة في أقصر وقت ممكن مع تباعد الصفوف ولا يتوضّأ المصلوّن في ميضات الجوامع ويصطحبون سجّاداتهم الخاصة ولا يفوت توقيت الجمعة 15 دقيقة وكذلك حول رفع الآذان من عدمه وصلّى بعضهم الجماعة في محيط الجوامع غير مكترثين بالخطر ولا بقرارات التعليق الرسميّة وصلّى بعضهم الجمعة وفق المذهب الحنفي بثلاثة مأمومين وغيرهم وفق المذهب المالكي ب12 مأموم وفي جميع الحالات والوضعيات لا يمكن أن تكون كلّ هذه الصور سبيل للمحافظة على أرواح الناس بمنع كلّ أسباب العدوى وإنتشارها ..
ثمّ إمتدّ الجدال إلى قضايا أخرى على غرار هل أنّ ميّت الكورونا من الشهداء ؟ وهل يغسّل ؟ وهل يصلّى عليه ؟ كما ستولد قضايا ومسائل جديدة ..
فأزمة وباء الكورونا تحيلنا إلى أزمة جديدة في الخطاب الديني خاصة الفقهي منه تحتاج منّا فيما بعد وقفات صادقة ...وقراءة فاحصة لتداعيات هذه الأزمة من خلال دراسة النقاط التالية:
• الضبط الدقيق للمتأهّلين الحقيقيين ممن يخوّل لهم الفتوى ضمن مجامع ذات هيكلية متكاملة - ففي تونس لا زلنا ننادي بإنشاء المجلس الأعلى للإفتاء- فتجمع كلّ الإختصاصات بديلا عن صور دور الإفتاء ذات التركيبة الفرديّة .
• العلاقة بين قرارات ولي الأمر من السياسيين وفتاوى الفقهاء حتّى لا يكون دور المفتين دورا مقتصرا على التبرير وإيجاد ما يدعّم العلاقة بين الطرفين وحتّى لا تستمرّ تبعيّة الفقهاء لقرار السلطة السياسية وتزكيّتها ولا يعني هذا الدعوة إلى التصادم أو التضاد بين القرار الفقهي والقرار السياسي.
• أسباب غيابُ فقه الاستشراف والتوَقُّع وفقه الأولويات .
• تحليل تبعات تغييب فقه الواقع فكلّ النوازل تنبع من الواقع وكلّ واقعة لها مجالها فيتحتّم المعرفة بالحقائق الطبية أو الجبائية أو البنكيّة أو القانونية أو غيرها مع ضرورة الإستئناس بأهل التخصّص لأنّهم أفقه من الفقهاء في فهم ظواهر مجال معرفتهم ..
• التفكير في تغيير منظومة الدراسات الشرعية في البرامج التعليمية والإعلاميّة فقد نرى ذات يوم الفقيه الطبي، والفقيه الاقتصادي... ونقطع مع الفقيه الموسوعي – الذي يعرف كلّ فنّ، ويُفتي في كلّ مسألة- فهذا النوع يجب أن يتوقّف لأنّ العالَم تعقّد وتغيّر وتشابك، ويجب أن تتغيّر وفق هذه التحوّلات المنظومة الفقهية اليوم .
• تطوير الفكر المقاصدي ونشره وتفسير أولوياته والتعريف بالترتيب السليم في خضمّ النوازل وهذا ما عاينه المتجادلون في أزمة الكورونا بين أن نقدّم حفظ الدّين على حفظ النفس أو العكس؟؟؟
• العمل على عقلنة المسلمين بدل غلبة العاطفة فسمة الفقه غلبة العقل وغياب العاطفة فيه فلا ندخل إلى الفقه والاجتهاد من باب العاطفة بل ندعو إلى الاستدلال الصحيح المنضبط بضوابطه الأصولية.
• تربيّة الفهم العام على العودة للجذور وتأصيل المسائل شريطة تنزيلها في الوقائع المشابهة عبر القراءة الجديدة للنصوص والمواقف والآثار من عمل الصحابة ومن تلاهم وعبر الإشتغال على نضج الناس وتقبّلهم لصور الاجتهاد التجديدي الإبداعي ولفكرة تجدّد النظر في المسائل بتجدّد الآليات .
ونخلص إلى أنّنا تعلّمنا من وباء الكورونا أنّ الوقائع والنوازل الجديدة تفرض علينا الاجتهاد والنظر بعيدا عن التشبّث بتعاسة الأفهام الضيّقة .
كما تدعونا أزمة الكورونا إلى تجديد المنظومة الفقهيّة بتركيبها في صيغة رباعيّة الأضلاع :
1 - الإنطلاق من كليّات الشريعة ومقاصدها وترتيبها.
2 - الإرتباط بالتراث الفقهي دون البتر ودون الانتساخ الكامل .
3 - المواكبة الكاملة للعصر ومستجدّاته والإستئناس بأهل التخصّص في كلّ المجالات الأخرى.
4 - التشبّث بالروح الحقيقية للدين بعيدا عن الحرفيّة والتضييق والفهم المتكلّس.
منبـــــر: الخطاب الفقهي التعيس ..في زمن أزمة الكورونا ..
- بقلم بدري المداني
- 21:02 25/03/2020
- 1150 عدد المشاهدات
مع تزايد الكآبة والخوف مما يتوقّع من وباء الكورونا وتبعاته وأعداد ضحاياه ..نعيش تعاسة في الخطاب الفقهي والديني عامة في ظلّ هذه الوضعيّة ..