وصعود فاعلين سياسيين جدد من أبرزهم الرئيس قيس سعيد بنسبة تزيد عن 72 بالمائة من الأصوات. ويرى محللون أن هذه التغييرات الكبيرة حصلت بفضل ثورة «الصندوق»، كما يسميها البعض، والتي أسقطت رموزا وأحزابا كبيرة، وقادها شباب بإمكانيات وأدوات متواضعة اعتمادا على وسائل التواصل الاجتماعي كالفايسبوك وتويتر. فهل يمكن القول أن تونس على موعد مع تغييرات عميقة في بنية الحكم؟ وهل سيواجه الإسلام السياسي امتحانا صعبا وأزمة هيكلية.
• سقوط سريع لمنظومة الحكم
لا شك أن أسباب الانتفاضة الشعبية التي أسقطت حكم الرئيس الأسبق بن علي تتقاطع في بعض عناصرها مع ما حصل في انتخابات 2019. ونقصد بذلك الفساد وانسداد الآفاق أمام حاملي أصحاب الشهادات. فالذي أسقط بن علي سنة 2011 هو الفساد وليس الاستبداد. والذي أسقطه أيضا ارتفاع نسبة البطالة وتضرر الطبقة الوسطى، كل هذه العناصر عادت وبقوة منذ 2011 إلى اليوم في 2019، من خلال حكومات قادها إسلاميون وبعض الليبراليين وانتهت بفشل ذريع، فالتونسيون لم يغنموا من انتفاضة «الربيع العربي» سوى حرية التعبير وبعض الإصلاحات القليلة جدا. ولذلك عاقب الناخبون في انتخابات 2019، وبدرجات متفاوتة، كل من كان جزءا من منظومة الحكم. وكان السقوط مدويا للأغلبية الساحقة وذلك لأربعة أسباب: استفحال الفساد وضعف الحوكمة وغياب الرؤية الاقتصادية وتواصل ارتفاع البطالة (أكثر من 15 بالمائة من العاطلين عن العمل سنة 2019 وهو ما كان عليه الأمر سنة 2011).
• الإسلام السياسي.. هل دقت ساعة الحقيقة؟
وجدت حركة النهضة الإسلامية نفسها في وضعية حرجة، وهي الفائزة بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية لسنة 2019 بنسبة تقارب 19 بالمائة، فهي مطالبة بتشكيل حكومة لا يُعرف ما إذا كانت ستتمكن من تكوينها، وهي تعلم أن الوضع الاقتصادي صعب جدا فكل مؤشرات النمو مختلة والديون والأسعار في ارتفاع كبير، ولا تستطيع حركة النهضة التملص من هذه الحصيلة الهزيلة وقد كانت جزءا من الحكومة المتخلية. ويرى كثير من المحللين أن النهضة وقعت في حرجيْن كبيرين، الأول أنها وقعت في فخ الحكم المباشر خاصة وأنها أصبحت المسؤولة الأولى عن كل ما سينجم عن الحكومة المرتقبة، وثانيا، أنّ فشلها- إن حصل- سيكون نهاية لتجربة حكم الإسلام السياسي وطنيا وعربيا ودوليا، لأن تيار الإسلام السياسي ما انفك يرفع شعار «الإسلام هو الحل» فوجد نفسه عاجزا عن الحل. وبالتالي فإنه من المرجح أن يدخل هذا التيار في أزمة هيكلية لا ظرفية ستكون لها تداعيات وطنية وإقليمية على المدى المتوسط والبعيد.
• التحديات المستقبلية
1) مع الرئيس الجديد قيس سعيد
أمام الرئيس سعيد ثلاث ملفات حارقة:
- استراتيجية القضاء على الفساد والتي من أجلها انتُخب بشكل كبير.
- الدبلوماسية الاقتصادية وما يتبعها من تعديل لسياسة المحاور.
- وأخيرا تحيين السياسة المتبعة للأمن القومي بما في ذلك التعامل مع ملف الإرهاب في الداخل والخارج وجمْع الهياكل الاستخباراتية في هيكل موحد وتطوير منظومة مكافحة الإرهاب السيبرني. وستحظى هذه الملفات بالاهتمام الأكبر لدى رئيس الدولة. وبخصوص التوجهات الكبرى في السياسة الخارجية فهي بارزة في برنامج الرئيس سعيد مثل النهوض بالاتحاد المغاربي وتنشيط التعاون مع الدول الإفريقية والمتوسطية والخليجية. وأقترحُ علي الرئيس الجديد مواصلة نفس السياسة التقليدية التونسية بخصوص القضية الفلسطينية وسائر القضايا الدولية. وإذا حقق الرئيس الجديد نجاحا باهرا في كل هذه القضايا فإن تونس ستكون قلب الرحي في الاستثمار الخارجي وتصبح وجهة جذابة للاستثمار.
2) مع حكومة النهضة الجديدة
أمام حركة النهضة تحدّ كبير في تشكيل الحكومة الجديدة، إما أن يعطيها دفعا هاما يغطي على تقلص خزانها الانتخابي أو يدفعها نحو مغامرة مجهولة العواقب. فالنهضة اليوم حسمت أمرها بعد اجتماع مجلس الشورى وستكون حكومتها سياسية برئاستها ومشاركة بعض حلفائها. ويتشكك بعض المحللين في حصولها على تأييد برلماني مريح وهو ما سيؤدي إلى مرحلة من عدم الاستقرار الحكومي. وربما تضطر حركة النهضة لاحقا إلى قبول مقترح بعض الأحزاب في تشكيل ما تسميه حكومة الرئيس التي تترأسها شخصية مستقلة مع عدد محدود من الوزراء الأكفاء وتحمل على عاتقها محاربة الفساد وتحسين مؤشرات النمو وتخفيض نسبة البطالة وتنقيح القانون الانتخابي ودعم استقلالية القضاء، وطي ملف الاغتيالات السياسية وكذلك ملف الجهاز السري. وسيكون ذلك اختبارا حقيقيا لمدى جدية الحكومة القادمة في التعامل مع كل هذه المسائل الشائكة. هذا هو السيناريو الأقرب للتحقيق. وستجد حركة النهضة نفسها متجهة للتعامل معه لكي لا تقع في سيناريو انتخابات سابقة لأوانها.
لكن هناك من يرى أن الحركة لا تريد الابتعاد عن التواجد في الحكومة المقبلة لثلاثة أسباب: الأول هو الخوف من فتح بعض الملفات، والثاني الخشية من مزيد تقلص قاعدتها الانتخابية لأن الناخب يكون مقبلا على التصويت عادة للحزب الذي يمارس الحكم، (ولو أن هذا التمشي لم يعد دائما مربحا)، والثالث تفكك شبكة الموظفين في الإدارة المركزية والجهوية التي سهرت حركة النهضة على تعيينهم طيلة عقد كامل تقريبا، والعارفون يقولون أن من يسيطر على الإدارة يسيطر على الحكم. ولذلك ستعمل حركة النهضة على إفشال مشروع حكومة المستقلين وستقبل بحكومة بها خليط من السياسيين والمستقلين لكي تحافظ على شبكة الموظفين لأنهم حجر الأساس في مشروع التمكين لحكمها وصمام الأمان ضد أي محاسبة محتملة. إن تيار الإسلام السياسي بتونس يعيش اليوم أصعب فتراته رغم انفراده بالمرتبة الأولى، وهو مهدد بمواجهة أزمة هيكلية لا ظرفية. إذ أنه بعد نكسة الليبراليين واليساريين في انتخابات 2019 يبدو أن حركة النهضة ذات التوجه الإخواني ستكون على موعد مع سلسلة من الأزمات لعجزها المتوقع عن حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية وربما تجد نفسها قبل انتهاء المدة البرلمانية في مواجهة مع متظاهرين سلميين على غرار ما يحصل في لبنان هذه الأيام من مظاهرات مليونية احتجاجا على فشل حكومات المحاصصات الحزبية والطائفية في تأمين حياة كريمة للبنانيين، مثلما فشلت في الفترة الأخيرة حكومة الإسلام السياسي في السودان بعد ثلاثين سنة من الحكم في الاستجابة لحاجيات السودانيين، فهل سيشهد تيار الإسلام السياسي نفس المصير في تونس؟ خاصة وأن مقتل أبي بكر البغدادي زعيم داعش والوثائق الهامة التي أعلن الرئيس ترامب عن حصوله عليها إثر عملية مقتله في 27 أكتوبر 2019 ستكشف عن تورط تنظيمات وأحزاب ودول في تسفير أبنائها لبؤر التوتر. ونحن نعرف في تونس أن هذا الملف لا يقل حساسية عن ملف الجهاز السري لأنه يتعلق أساسا بالأمن القومي.