هذا الحراك الكبير المجال اللازم للإدراك العميق بالأهمية البالغة للأحداث التي نشهدها، والتي تقع أمام أعيننا والذي نُعتبر الفاعلين فيها. هذه الاحداث المتعددة تتبع بعضها البعض، وتتدافع وتتداخل فيما بينها، خاصة في عصر المعلومات التي يتم فيه التقاط الآني والفوري، وغالبا، التخلّي أو تجاوز حدث الأمس للتركيز على حدث اليوم، وذلك يندرج ضمن الترتيب العادي لوسائل الاعلام اليوم. فوقت التفكير والتحليل العميقين أطول، ويمكن، -ربما-، تأخيره عن الضرورة الملحة للوقت الفوري.
ومن المؤكد أن مسالة تشكيل الحكومة المقبلة هي اليوم محور اهتمامات الأوساط السياسية والإعلامية، وأن الإكراهات الاقتصادية وحالات الطوارئ المالية مطروحة اليوم بإلحاح، وإنني، -وليس من باب إنكار هذه المخاوف المبررة-، أودّ ان أدعو المثقفين إلى المشاركة في بداية التفكير العميق في هذه اللحظة الفريدة التي نمرّ بها، والتي يمثل الاستفتاء الشعبي لانتخاب قيس دلالة واضحة عليها.
ويجدر في هذا السياق التحلي بقدر من التواضع للاعتراف بأنني واحد من أولئك الذين، عن عدم تبصّر أو عن رؤية خاطئة أو أخطاء معرفية أو أيضا بفعل نقص الإعلام أو التضليل الإعلامي، لم يدركوا عمق هذه الموجة العميقة الخفية التي يحملها الشباب (والتي كان قيس سعيّد محورها) والتي باتت تتشكل تدريجيا، وكانت، مع مضي الوقت، تتنامى حجمًا وقوّة لتفاجئ بل لتغمر التنظيم السياسي.
نعم، لقد كنت تحدثت، بعد الجولة الاولى من الانتخابات الرئاسية، عن القوى الجديدة الهامشية للنظام التي طغت على التيارات المكوّنة للمركز، بما في ذلك الأغلبية والمعارضة بدرجات متفاوتة. وبطبيعة الحال، كنت استبعدت من هذه القُوى التيار الحالي لنبيل القروي، حيث أنه يمثل النظام في شكله المنحرف والذي تم عقابه بشده بعد ذلك. نعم، كنت قد أعربت، مثل الآخرين، عن مخاوف بشأن الطفرة الشعبوية مع عقيدتها -المناهضة للنخبة، والسيادية والمحافظة الاجتماعية - الخاصة بهذه التيارات في العالم. ولازال هذا التحليل صحيحا بالنسبة لبعض التيارات على الساحة البرلمانية الجديدة.
ومع ذلك، فلا جدال في أنه إذا كان اختيار الشعب يكاد يكون إجماعا، فذلك لأنه يعبر عن لحظة عظيمة من لحظات الحقيقة، وعن حكمةٍ تُحرِّك مشاعرنا، وتُسائِلُنا في أعماق أنفسنا. فهل هو مجرد حدث انتخابي محدود، مرتبط براهن اقتصادي معيّن أو عابر، وبدون ثقل مجتمعي قويّ وبدون أهمية تاريخية كبيرة؟
ومن خلال هذه المساهمة المتواضعة، أودّ ان أتقدم بدعوة ملحّة إلى المثقفين، بوجه الخصوص، لكي يكونوا منسجمين مع رسالة الشعب وشبابه، ولا سيما لتحليل معناها وعمقها الثقافي وأهميتها التاريخية والآفاق التي يمكن أن تتيحها. وإني أعتقد جازما بأن اللحظة التي نعيشها فريدة من نوعها وأن أنفاس الثورة عادت للتواجد بيننا مجدّدا. فيجب أن تكون لدينا القدرة، في أوقات معينة، على الفطنة الضروريّة لتلقف الأساسي وفهمه:
1 - انتخاب قيس سعيّد: حدث فريد
كيف تعتبر التجربة المجتمعية، التي بادر بها الشباب وجسدها قيس سعيّد، فريدة وفي بعض الجوانب غير مسبوقة؟ وكيف تستعيد نفس الثورة وتعيد إحياءه؟
هذه التجربة فريدة من نوعها وفي مسارها لأنها انتهجت طريقه غير مسبوقة للتعبئة وإقامة الحملة. ولم تتطلب سوى القليل جدا من الموارد المالية، باستثناء تلك التي قدمها المؤيدون أنفسهم، وبدون طلب أي تمويل عمومي والذي كان يحق للمرشح أن يطالب به ولكنه لم يفعل. التطوع والتطوع والاشتراكات العفوية الصغيرة كانت كافية لتحقيق المطلوب. ففي مواجهة الآلات الإعلامية السياسية الضخمة والمصادر المالية التقليدية الكبيرة، كانت طريقة تنظيم حملة قيس سعيّد «طريفة» ونجحت في أن تحدث المفاجأة في بلادنا وفي عديد الأماكن الأخرى.
فلم يتم تنظيم اجتماعات كبيرة يقوم خلالها المترشح بإلقاء الخطب والوعود. وبدلا من ذلك، أقيمت اجتماعات صغيرة أو حلقات نقاش بادر بها الشباب أنفسهم، وتولّى المترشح خلالها الإصغاء متفاديا تقديم وعود ولكنه قام بطرح مقترحات للنقاش: لقد تمّ انتهاج أسلوب «من القاعدة إلى القمة «. وهو ما يشكّل كذلك تجربة غير معهودة.
بيد أنه، لا بد من القول إن الشباب قاموا أيضا بالتعبئة من خلال الشبكات الاجتماعية. فهذا الشاب، المتشبع بمبادئ الثورة، مرتبط ارتباطا شديدا بالشبكات الاجتماعية؛ لذلك، فان أساليب اشتغالهم تختلف عن نظام الاعلام السياسي التقليدي فقد تولوا تجميع جهودهم وتبادل المعلومات بينهم على نطاق واسع. «فهؤلاء الشباب المرتبطون بالشبكات الاجتماعيّة سيتوصلون في نهاية المطاف إلى التجمع في روح مشتركة من التمثلات المتصلة بهدف خصوصي وهو: تغيير النموذج الاجتماعي والسياسي» وفقا ليسري المرزوقي.
فما يجب أن نفهمه إذن هو كيف أمكن لقيس سعيّد أن ينجح في تجسيد وحمل هدف الشباب للتغييرهذا؟
2 - قيس سعيّد: كرامة الشباب المستعادة
بدايةُ، دعنا نذكّر أنّ مفهوم «الكرامة» يعني، قبل كل شيء، الاحترام والاعتبار الذي يستحقه كل شخص بغضّ النظر عن سنه أو جنسه أو حالته الاجتماعية أو دينه أو عرقه. فالكرامة تشير، أوّلا، إلى الطريقة التي نُعامَل بها، أي مدى ما نحظى به من اعتبار. فنكران كرامة الشخص يعني، أو يؤدّي إلى، الإقصاء والإحباط واليأس وكذلك الشعور بعدم الانتماء إلى المجموعة.
وعلاوة على ذلك، يجب أن نضيف أن مفهوم «الكرامة الإنسانية» لا ينطوي على الكرامة كقيمه جوهريه للفرد فحسب، بل يغطّي أيضا الكرامة باعتبارها شيء نطمح اليه جميعا، أي حياة ومجتمع يُعامل فيهما الجميع بكرامة. فالكرامة الإنسانية تحمل في طيّاتها قيمة مطلقةً ووعدًا بالأمل في عالم أفضل.
وللكرامة الإنسانية أيضا ركيزة مادية: فإننا نتحدّث اليوم عن حياة كريمة؛ وهذا مفهوم أساسي من جوهر حقوق الإنسان. فالكرامة هي، في الواقع، تجسيد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا ما يفسر كيف أن قيس سعيّد، في تمشّيه غير المعهود للاتصال المباشر والاستماع إلى الشباب، قد أعاد، إلى حدّ ما كرامة هذا الشاب التي كان يشعر بالحرمان من الكرامة ومن الأمل في حياة أفضل. ولكن أيّ حياة كريمة؟ أي حياة أفضل؟ كيف يمكن تأمينهما؟ ومن قِبَل مَن؟
هنا، نحن في قلب مسالة متعددة الابعاد حيث يجتمع الاقتصادي بالسياسي، والمؤسسي، والقانوني، وكذلك، بالثقافي. فقيس سعيّد يقدم على هذا الصعيد اقتراحا بسيطا: كلما كانت السلطة الحقيقيّة لصنع القرار والتداول أقرب إلى المواطن، كلما أمكن لها اتخاذ الخيارات الأفضل. لأن لها معرفة أفضل باحتياجاتها وأهدافها. وعلى ذلك الأساس بُنِيَت خطته لإرساء إصلاح سياسي مؤسّسي: «من المحلي إلى الإقليمي، ثم إلى الوطني»، الذي سنعود إليه لاحقا.
وهكذا، فبإعادة الكرامة للشباب، نجح قيس سعيّد في استقطاب دعم هذا الشباب ولكنه، قبل كل شيء، أعطى دفعا لعودة الأمل في الأفضل واستحضاره لدى هذه الفئة؛ ومن خلال بناء الثقة في هذا الشباب، ساهم في تحرير كلمته وفِعْله. فهذا الشباب استعاد الأخذ بزمام المبادرة. وما حملات تعبئة المواطنين والمبادرات الحالية والمحتملة في المستقبل إلّا دلالة واضحة على هذا الوضع الجديد الذي يُعيد التواصل مع روح الثورة.
3 - قيس سعيّد: الأخلاق (الإيتيقية) في قلب السياسة
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ عاملا آخر ساهم بشكل أكبر في دعم الشباب، ثم الأغلبية الساحقة من الشعب، للمترشح قيس سعيّد تتمثّل في بُعد آخر من أبعاد الكرامة. فمفهوم الكرامة يشير أيضا إلى صفةِ من هو جدير بالكرامة. وترتبط الكرامة هنا مع تميّز الشخص ورصانته وشرفه وطريقة تصرّفه مع الناس. فالفرد الذي يتصرّف بكرامة شخص يتحلّى بأخلاق عليا، وبروح الأخلاق في الممارسة والعمل. وقد كان ذلك عاملا حاسما في شبه الاستفتاء الشعبي الذي حظي به قيس سعيّد.
وفعلا، فإنه أعاد وضع الأخلاق في قلب المجال السياسي. فالعديد من الفاعلين السياسيين يخلطون بين المصلحة العامة (الإفادة) والمصلحة الخاصة (الاستفادة). ومن أجل هذه الاخيرة تُرتكب أفعال تتنافى مع الأخلاق السياسية التي يتم اختيار رجل السياسة على أساسها حيث تُوكل إليه عهدة السهر على المصلحة العامة.
فالشخص الذي يخدم المصلحة العامة يمكنه في الواقع أن يتعامل بواحدة من الصيغ الثلاث التالية:
• الإفادة مع الاستفادة؛
• عدم الإفادة ولكن الاستفادة؛
• الإفادة دون الاستفادة.
وفي تونس، يجب الاعتراف بأن الصيغة الثالثة (الإفادة دون الاستفادة) أصبحت بالتأكيد أكثر ندره. ولئن كان هذا الوضع يعود إلى ماض بعيد، فإنه يزداد ندرة في الوقت الراهن. وبالنسبة للصيغة الوسطى (الإفادة مع الاستفادة)، وعلى الرغم من أنها أصبحت أكثر شيوعا، فإنها تشهد بدورها أكثر تعمّقا وانحرافا. أما صيغة (الإفادة مع الاستفادة)، فإنها أصبحت، للأسف، تشهد اتساعا متواترا. وعندما تصبح هي المهيمنة يمكننا الحديث، عندئذ، عن مرحلة الفساد المؤسسي...
فالشخص الذي هو في خدمة الدولة، كما من المفروض أن يكون القائد السياسي، يجسّد الدولة. وإذا كان يحترم نفسه واختياره في الحياة، فانه سيكون قادرا، دون ندم، على مقاومه أي إغراء بالفساد. فإن كلّ فعل من أفعال الفساد يرتكبه أو يسكت عنه يبعده عن الهدف الذي يشكل أساس اختياره في الحياة. وفي انتخابها لقيس سعيّد، رأت أغلبيه التونسيين رجل الدولة الذي يتحلّى بصفات وقيم أخلاقية كانت غائبة أو فُقدت، والتي يعتقدون انها أساسيّة وضرورية لتجنيب البلاد الأسوأ وإقامه علاقة ثقة جديدة مع الدولة.
وأخيرا، أود ان أعود بإيجاز إلى مشروع الإصلاح المؤسسي الذي اقترحه قيس سعيّد. فلم يحن الوقت بَعدُ لتقييم جدوى هذا الاقتراح أو الحكم عليه لان معالمه مازالت غير واضحة، ومن ثم فقد يساء فهمها. وما يمكنني قوله هو ان النهج المقترح تشاطره فيه عدد من الحركات والمفكرين والجهات الفاعلة البديلة المتنامية في العالم اليوم. وخلافا لما يعتقده البعض، فان هذا المنهج ليس نتاج تيارات شعبوية، بل على العكس من ذلك، فهو نتاج للتيارات البديلة التقدمية التي تدرك الحدود الحالية للديمقراطية التمثيلية والتي تدعو إلى الديمقراطية المباشرة، ديمقراطيّة القرب. وقد كنت اقترحت بأن يبادر الرئيس الجديد، في الوقت المناسب، بإطلاق نقاش وطني بشأن إصلاحه المؤسسي المقترح، حينما يكون هذا المشروع الجديد قد اكتسب المزيد من الصلابة ودقّة المحتوى.
وعلى أيّ حال، فمن خلال مشروع إعادة البناء المؤسساتي، نحن مدعوون إلى مساءلة نظامنا للسلطة، ونظامنا الانتخابي، ودستورنا. وبطبيعة الحال، نحن بحاجة ماسة إلى إرساء الضمانة الأساسية لتوطيد سيادة القانون، ونعني بذلك المحكمة الدستورية. وهذا شرط مسبق لأي مبادرة. فيجب أن نَعي بما يجب من العناية تفرّد تجربتنا الديمقراطية في عالم يشهد الصعود القوي للديمقراطيات «غير الليبرالية». هذه الديمقراطيات التي تقوّض أركان دولة القانون وتقتصر على الانتخابات التي يتم فيها القضاء على المنافسين حتى قبل انطلاق السباق (والأمثلة على ذلك ليست قليلة في العديد من البلدان في أوروبا وأمريكا الجنوبية). فنحن نُعتبر استثناءً بالمقارنة مع الديمقراطيات الناشئة اليوم.
وعلاوة على ذلك، فإنه لا يوجد دستور لا يمكن المساس به، فتجارب بلدان كالبرتغال أو البرازيل، على سبيل المثال، تقيم الدليل بأنّ التنقيحات كانت عديدة على المدى المتوسط (بضع سنوات) حيث أن الواقع فرضها وجعل منها أمرا ضروريّا.
نعم، نحن نواجه تحدّيا بشأن حدود الديمقراطية التمثيلية، خاصة وأنها مازالت غير مكتملة وهشّة لا سيما بفعل منظومة حزبيّة غير راشدة. فالنقاش جدير بأن يفتح...