مؤسسة البرلمان ومن ثمة الحكومة المنبثقة عنه. بدون الدخول في التفاصيل الجديدة لاستطلاعات الراي الممنوعة من النشر فان اخر الاستطلاعات المنشورة ومنها التي وردت في جريدة «المغرب» كانت تشير الى تقدم حزب «قلب تونس» لمؤسسه نبيل القروي، تليه «النهضة». سيعتمد المقال هذه الاحداثيات وايضا معطيات خاصة حول كواليس المفاوضات بين الاطراف المختلفة في تحليلها لاستتباعات الاستحقاق التشريعي والسيناريوهات التي يمكن ان تنبثق عنه.
يواجه المشهد السياسي الانتخابي محاولة تحيل واضحة واستقطابا متبادلا ضمن منطق «اما قلب تونس او النهضة». انصار الطرفين يقومان بذلك بشكل مكثف كاستراتيجيا دعائية. اكثر من ذلك تصريحات من قيادات الطرفين حول رفض كل منهما التحالف مع الطرف الاخر. رئيس حركة النهضة استعاد، كما جرت العادة سابقا، «خطاب الثورة»، ونفى اي تقارب بعد الانتخابات مع «ذوي شبهات الفساد» في اشارة الى «قلب تونس». نبيل القروي ارسل رسالة من زنزانة السجن ينتقد فيها بوضوح النهضة ويتعهد بعدم التحالف معها. هذا الوضع لمن لازال متسلحا بذاكرته ليس جديدا.
في سنة 2014 كان الاستقطاب اكثر حدة والقطيعة اوضح واقوى وخطاب الحملة الانتخابية للطرفين أعطى لجمهور الطرفين ما اشتهوه من تصعيد وحدية. وفي نهاية الامر تم تفعيل اتفاق التوافق المقرر اكثر من عام قبل الانتخابات.
التاريخ لا يعيد نفسه الا في شكل اخر مشوه. وهو ما سيحصل هذه المرة. لكن لنتفق على أن الوضع مختلف في بعض النقاط. بدءا وليس سرا ان الكتل البرلمانية ستكون اصغر حتى للاحزاب الفائزة، والتي ستصبح قدرتها التفاوضية اقل بسبب اهتراء قاعدتها البرلمانية. وصناعة القرار في اغلبها سيكون تحديا في ذاته لانها اما «احزاب» مصنوعة في سياق التنافس الانتخابي وتشكلت على عجل بما يجعل تمساكها الداخلي ضعيفا خاصة امام النزعات الانتهازية الطاغية فيها، او هي ببساطة متنصلة من التنظم الحزبي. مجرد مسار التفاوض واتخاذ القرار اضافة للتشتت وصغر الكتل سيجعل تحدي تشكيل حكومة اكبر بكثير من سنة 2014. وما سيمنع سيناريو الازمة المستديمة الاحتمال (الضعيف وفقا لمعطيات الراهن) بحل البرلمان بسبب العجز عن تشكيل حكومة هو مبدأ حب البقاء لعديد النواب الذين سيخشون من إعادة الانتخابات وفشلهم في الصعود مجددا.
الان هناك ما سيتكرر ولو بصيغة مبتكرة بعض الشيء. لنلاحظ ان هناك تشاركا في التصريحات حول رفض التواجد في حكومة مشتركة. وجود رئيس «قلب تونس» نبيل القروي في السجن، واحتمال عدم تغير الوضع، يضاف الى معطيات اخرى حول ان رئاسة الحكومة ستكون على الأرجح غير متحزبة. اذ رشحت معطيات منذ ما قبل الانتخابات، والبعض يعطي تاريخا محددا اي يوم اختيار حركة النهضة لمرشحها عبد الفتاح مورو، وتتمثل في حكومة تكنوقراط يختار رئيسها نبيل القروي وتلقى دعما برلمانيا. سيكون الوضع مشابها بعض الشيء لحكومة الحبيب الصيد باستثناء غياب وزراء متحزبين معروفين. بمعنى اخر سنرى في هذا السيناريو وزراء متحزبين بشكل مستتر او موالون لاحزاب. وسيتم التبرؤ مسبقا من اي «تحالف» وسيحتج كل طرف بحجج ضد الآخر، «الفساد» بالنسبة لـ»قلب تونس»، و»الجهاز السري» بالنسبة للنهضة.
لا يوجد شك في المقابل ان إحدى أهم مميزات المرحلة الراهنة هو «الموجة الشعبوية»، وليس ذلك بالضرورة أمرا سلبيا. دعني هنا اتوقف عند التعريف لان هناك بعض الخلط وهشاشة في استعمال الكلمة. عموما اعتمد تعريف الباحث الهولندي كاس مادي Cas Mudde (استاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجيا الامريكية) وهو التعريف الاكثر رواجا بين الباحثين في الموضوع في السنوات الاخيرة. هنا يفرق مادي بين «الديمغاجوية» demagoguery وبين «الشعبوية». واذ تتمثل الاولى في عناصر خطاب سياسي تركز على استعمال الاكاذيب وتعول على أموال المتلقي فان الثانية تتميز تحديدا بالتعارض العام والجذري في الخطاب أيضا بين «الشعب» و«النخبة»، و«الشعبوي» هنا يتمثل بوضع «الشعب» وتمثيله في شخصه في تعارض جوهري مع بقية «النخبة». في كلمة هنا نتحدث عن «استعداء النخبة» anti-elitism.
الرابط بين الاسماء الصاعدة سواء أكانت شخصيات أو أحزابا هو استعمال هذا التعارض كركن اساسي في الخطاب السياسي، وهي موجة تستفيد بشكل اساسي من الاستعداء العام للاحزاب، حيث «نجحت» الاخيرة في أن تركز فيها اولا صورة «النخبة»، وثانيا صورة «الفشل». بمعنى آخر «الشعبوية التونسية» هي نموذج يتطابق فيه «استعداء النخبة» مع «استعداء الاحزاب». وهنا يمكن ان يكون لاي «موجة شعبيوة» حتى في جزء منها مؤشرات ايجابية مثل تحفيز جزء من الناخبين الذين لم يتعودوا على الانتخاب، وايضا ان بعض «الشعبويين» يعبرون اساسا على توجه جزء من الناخبين بقوة ضد «الفساد السياسي»، وهو مشكل حقيقي وليس وهميا. المشكل ان هشاشة البرلمان الحالية سيضاف اليها ارتفاع سقف التوقعات للناخبين الذين تم تقوية الشعور بتعارضهم مع النخبة وان المشكلة هي النخبة ككل بدون استثناء وان من صعد سيحقق احلامهم. وهذ يؤشر على خطر مزيد اهتراء المسار الديمقراطي خاصة مع تجديد تركيبة «توافق» مزيفة اكثر هشاشة، مع اصطدام الناخبين بالواقع، والذي سيكون على الارجح مكللا بسياق فيه اصلا شبهات فساد سبقت الانتخابات وربما اخطر مؤشرات «الفساد السياسي» بما في ذلك على الامن القومي العقد المنشور في موقع وزارة العدالة الامريكية مع ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية للسعي لـ«دعم مادي» من قبل زعامات دولية منها الرئيس بوتين. ومن الطبيعي أن تقوم النيابة العمومية بفتح تحقيق في الموضوع خاصة بعد بلاغ الاعلام بالجريمة الذي قام به البعض ومنهم الاستاذ محمد عبو باسم «التيار الديمقراطي».
بعيدا عن «الديماغوجية» هناك شبهات فساد سياسي حقيقي تستدعي وقفة بالنسبة لمن سيكون في السلطة في القترة القادمة وتحتاج انتباها شديدا من قوى سياسية نظيفة وجدية. بعد «سكرة الشعبوية» ستوجد موجة «نزع الاوهام» او موجة «ما بعد شعبوية» post-populism وهو ما حصل في سياقات تاريخية اخرى عديدة. لهذا هناك حاجة حقيقية لان توجد كتل برلمانية جدية في مقاومة الفساد تقف بقوة ضد الانحرافات المتوقعة للحكومة القادمة بعيدا عن التعارض الوهمي الجذري بين «الشعب» و»النخبة» وتخاطب عقول الناخبين. ربما حينها تستقر الحياة السياسية في اتجاه الخلاص والاصلاح الجدي.