من الصعب عليّ الحفاظ على موقف لامبال مما يحدث هناك مخاطر جدية على الدولة والجمهورية بناء على المؤشرات المتقاطعة في المرحلة القادمة وليست الانتخابات القادمة الا مقدمة اليها. وعليه اخترت ان اكون في سياق المعركة السياسية مجددا وادعم خيارا محددا: خيار محمد عبو في الرئاسية وحزب التيار الديمقراطي في التشريعية. اخترتهما بوصفهما حجر الزاوية الان وفق معطيات سآتي على ذكرها من اجل بناء ما امنت ولازلت اؤمن به اي بناء خيار سياسي مؤسساتي ومنظم، وليس مشخصنا، يمثل البديل الاجتماعي الديمقراطي ويشكل خيارا آخر مستقلا ومختلفا في الان نفسه عن منظومة الحكم الحالية، والمنظومة الموصوفة بـ«الشعبوية» التي نتهيأ لمنافستها.
هذا الخيار ياتي بناء على قراءة للخطر الرئيسي القائم في تونس على مكاسب الدولة والجمهورية وعن البديل الافضل والاسلم في مواجهة هذا الخطر. اخترت ان افعل ذلك عبر نص مطول اذ ان مرحلتنا التاريخية الثرية من حيث الاحداث لا يقابلها تنضيج وتعميق مماثل من حيث التاسيس للخيارات السياسية. هذا النص بمعنى اخر بقدر ما هو تعبير عن اعلان خيار سياسي ذاتي فهو ايضا محاولة للدفع نحو بناء فضاء جدال جدي ومعمق، ينظم ويؤطر خلافاتنا.
الخطر الرئيسي على الدولة والجمهورية في المرحلة التاريخية الراهنة:
من الواضح ان اهم ظاهرة بصدد التشكل منذ حوالي العام هي صعود واضح لخيارات «جديدة» تتموقع خارج منظومة الاحزاب والمرشحين التقليديين. اذ بدأ صعود كل من نبيل القروي وقيس سعيد بشكل لافت منذ نهاية سنة 2018 في استطلاعات جدية منشورة وخاصة غير منشورة. اضافة الى ذلك كان هناك تزايد في نوايا التصويت لمصلحة عبير موسي وما تمثله من استعداء لمنظومة التأسيس للديمقراطية. في الحالتين هناك حالة احتقان من الحصيلة بعد الثورة، وهنا نجد عموما ردتي فعل من خارج منظومة الاحزاب المعروفة:
- الاول موصوف بـ«الشعبوي» يستثمر في سلبية الحصيلة اما لطرح بديل تعويض الدولة بالعمل الخيري واستعمال وسيلة اعلامية واسعة المشاهدة للترويج لبضاعة خارج اطار السياسة المعتادة بوجوه تتبع اساسا المنظومة القديمة (نبيل القروي)، او بديل يركز على الاعتراف بفضل الثورة لكن ينتقد بشدة المنظومة الانتخابية بصفتها لم تحل مشاكل الناس ويقترح منظومة جديدة ويتجاهل تماما الانتخابات التشريعية ومن ثمة الدور الرئيسي للبرلمان في النظام السياسي القائم (قيس سعيد).
-الثاني بديل ردة يستعدي الدستور واي مكاسب تمت بعد الثورة خاصة منها على مستوى الحريات ويستثمر تحديدا في الاحتقان الاعمى بدون افق رغم انه يستعمل هذه المكاسب والتموقع في الاطار الديمقراطي والدستوري الذي يقوم بذمه.
الحقيقة ليست هذه القوى تحديدا هي التي تمثل خطرا رئيسيا على الدولة والجمهورية. مما يشكل خطرا جديا هي الاسباب التي ادت الى وجودهم. تحديدا عجز مرحلة التأسيس الديمقراطي في تأسيس دولة ديمقراطية قادرة على ان تكون قوية لا بالعنف بل بتفعيل القانون وسلطة المؤسسات وغير مرتعشة امام سلطة اللوبيات والمافيات، وعادلة تحترم حقوق الناس وتفرض حدا ادنى من الفرص المتساوية بين مواطنيها وفقا لمبادئ الدستور في العدالة الاجتماعية والتمييز الايجابي. هذا الفشل هو الذي خلق مجالا لموجة خارج المنظومة الحزبية المعتادة، والخطر ليس تهديد سلطة الاحزاب، اذ الاحزاب ادوات في الديمقراطية وليست غاية في ذاتها، بل ترسخ تهرئة الديمقراطية ذاتها. بمعنى اخر فشل منظومة الحكم منذ الثورة في تفعيل دور الدولة في تحقيق مبادئ الدستور في الكرامة والتنمية العادلة وحماية مواطنيها وتفعيل القوانين والمؤسسات هي الخطر الرئيسي امام الديمقراطية. في نهاية الامر القوى المهيمنة منذ 2011 الى الان هي التي خلقت الارضية السياسية والاجتماعية التي سمحت بصعود بدائل مشوهة اوبدائل الردة الى ما قبل الثورة.
ليس المجال للتفصيل في تاريخ الديمقراطيات، وميكانيزمات صعود «الشعبويات»، لكن كل الدارسين يقرون بالعلاقة العضوية والجوهرية بين العدالة السياسية اي الديمقراطية وبين الانجاز الاقتصادي والاجتماعي الذي يجعل هذه العدالة السياسية قادرة على البقاء والديمومة. ومن ثمة ان اي خلل في هذه العلاقة سواء في المرحلة الانتقالية المبكرة او شيخوخة الديمقراطية يسمح بظهور متواتر لـ»الشعبويات». بمعنى اخر ليس العدو الرئيسي للدولة والجمهورية الفتية شخصا بعينه، بل اسباب وجود خيارات مضللة «شعبوية»، والقطيعة بين بالناء السياسي للديمقراطية وبنائها الاجتماعي والاقتصادي. وعليه من المضلل الحديث عن هزم المخاطر القائمة عبر المبارزة الشخصية في الانتخابات الرئاسية حصرا، حيث صلاحياتها لا تسمح وحدها حسم الخيارات الاقتصادية والاجتماعية في نظام سياسي مركز للسطة في البرلمان. كما ان منطق الدفاع عن الديمقراطية بمنطق «عندك في الهم ما تختار» وبالتالي استمرار مكونات منظومة الحكم القائمة، اي تحالف تعبيرات منظومة ما قبل الثورة مع حركة النهضة، في مواجهة «الخطر الشعبوي» انما يؤجل فقط هذا «الخطر» ويرسخ اكثر اسباب قدومه.
الدفاع الامثل عن الديمقراطية هو في مواصلة بناء بديل اجتماعي ديمقراطي مستقل عن منظومة الحكم في مواجهة الخطر الرئيسي القائم، مشروع شامل سواء على مستوى الرئاسية اوالتشريعية، يستهدف اسباب هذه المخاطر ولا مظاهرها المتنوعة. بناء المشروع البديل في حد ذاته هو احد استحقاقات المعركة الانتخابية.
في الحاجة الملحة للبديل الاجتماعي الديمقراطي لحماية الديمقراطية وان عبو/التيار التعبير الرئيسي عن البديل الاجتماعي الديمقراطي
لم تستطع فترة الانتقال الديمقراطي والتاسيس الراهنة ان تفرز قوى سياسية متمايزة حسب الرؤى والبرامج. بل لدينا استغراق في استقطاب هووي (اسلامي/حداثي) من جهة او استقطاب التموقع في السلطة من اجل التموقع في السلطة (حكومات «توافق» و»وحدة وطنية» لتوزيع السلطة بدون عمق برامجي). في الحالتين لم تستطع القوى التي فازت في 2014 سواء الاسلامية او التي جددت منظومة ما قبل الثورة ان تقدم حلولا جديدة اقتصادية واجتماعية. وانتهت عموما الى ديمومة الخيارات التنموية السابقة للثورة وفي احسن الحالات تزويقها. كان الخيار الاقتصادي والاجتماعي عموما قابلا، بل معززا، لاستمرار سيطرة العائلات واللوبيات والعجز عن تقديم تصور في خصوص تدبير وتسيير ملف الثروات الباطنية، وايضا غياب مقاربة واضحة في العلاقات التجارية والاقتصادية الخارجية، خاصة مع الاتحاد الاوروبي، ومن ثمة عدم تفعيل مبادئ الدستور في المحورين الاقتصادي والاجتماعي.
في الاثناء تصدت عدد من التجارب السياسية لتأسيس بديل اجتماعي ديمقراطي قبل وبعد الثورة. بيد ان مختلف التجارب انتهت الى انشقاقات او ازمات. الى حد ما تجربة حزب المؤتمر التي تراوحت من حيث هويتها السياسية بين انصار توجه اجتماعي ديمقراطي وانصار تيار اجتماعي يركز على نزعة اسلاموية، لم تحقق هذه الاحزاب اختراقات انتخابية جدية في السنوات الاخيرة. فقط حزب التيار الديمقراطي استطاع توضيح هويته السياسية الاجتماعية الديمقراطية واثبات ذلك في منعطفات مختلفة وايضا بناء تنظيم مهيكل ويتجدد ديمقراطيا بمنأى عن الصراع والانشقاق كما استطاع التوسع عبر جذب قوى سياسية اخرى مثل التحالف الديمقراطي واستطاع اثبات نفسه كخيار ثالث، بين احزاب المنظومة القديمة والنهضة، في الانتخابات البلدية 2018. كان تصويتا مفيدا في صالحه على حساب بقية منافسيه في ذات العائلة السياسية. صحيح ان الحزب لا يزال امام تحدي اثبات انه حزب حكم من حيث تركيبته ورؤيته، ضرورة تعميق تصوره في تسيير الدولة بما يتجاوز هدف «مكافحة الفساد» والتاكيد اكثر وبشكل اوضح على رؤى وسياسات محددة في الشان الاقتصادي والاجتماعي، الا ان تموقعه السياسي هو بكل تاكيد اجتماعي ديمقراطي سواء عبر مواقفه المعلنة او خاصة قياسا بتصويت نوابه في البرلمان، او من حيث مشاريع القوانين التي بادر بها، وهو المقياس الانسب لتقييم موقع اي طرف سياسي.
في الختام ألخص أهم أسباب خياري في دعم ثنائية عبو/التيار للرئاسية والتشريعية:
مرشح وحزب حسما بوضوح هويتهما السياسية، حيث نحتا شخصية اجتماعية ديمقراطية واضحة في مواجهة اغراءات تصفية هذه الهوية لاهداف انتخابوية، وفي التحول الى قاطرة وظيفية لاطراف اخرى. ويمثلان معا الخيار الوحيد الوازن في ثنائية الرئاسية والتشريعية في التيار الاجتماعي الديمقراطي. دعم عبو للرئاسية هو دعم لخيار متكامل في الرئاسية والتشريعية، في شقي النظام السياسي، مرشح رئاسي مع حزب منظم معني بجدية لانتزاع كتلة برلمانية وازنة للمشاركة في الحكم او لقيادة المعارضة. وهذه النقطة مفقودة في منافسيه من نفس التوجه العام مثل الدكتور المرزوقي (كانت تلك احد اهم اسباب استقالتي مع مجموعة من المناضلين من حزب الحراك) او خاصة قيس سعيد.
- يجمع محمد عبو بين خصال المناضل السياسي قبل الثورة والجيل الشاب الذي يسعى لطرح بدائل جديدة ومسؤولة بعيدا عن التشنج والاساليب والصراعات الايديولوجية القديمة. شخص متوازن في خطابه ومسؤول يحتكم دائما إلى القانون رغم ميله الى مبادئ الثورة. لا ينحصر ناخبوه في حيثية جهوية محددة، وتمثل القاعدة الانتخابية لحزبه، قاطرة قاعدته الانتخابية ومن ثمة هو غير مرتهن لاي طرف سياسي، وهو للاسف وضع الدكتور المرزوقي وهو الرهان الذي اثبت خطأه بمجرد اختيار النهضة لمرشح من داخلها، لتنتفي بذلك الحجة التي كانت قائمة قبل حوالي العام اي قبل صعود قيس سعيد والان مورو في الاستطلاعات اي انه «معني بالدور الثاني»، ليخسر تكتيكيا واستراتيجيا. اخيرا محمد عبو هو الاقدر وفقا للخاصيات اعلاه لكي يهزم فاذا وصل الى الدور الثاني مرشح «شعبوي» او مرشح منظومة الحكم، مثل القروي او الزبيدي بما هما تعبير اما عن يأس من الدولة او استمرار لحالة «محلك سر» ورفض الاصلاح.
-عبو والتيار استثمار في المستقبل حتى في حالة عدم بلوغه الدور الثاني. مثلا نتيجة تضعه في كوكبة المتنافسين الاوائل في الدور الاول ستضخ حيوية في حملة التيار التشريعية. سيكون للحزب في جميع الحالات في البرلمان الكتلة الوحيدة الاجتماعية الديمقراطية وحجر الزاوية في بناء البديل الاجتماعي الديمقراطي للحكم اثر هذه الانتخابات. بما ينهي عبر التصويت الانتخابي حالة التشتت المستديمة داخل هذه العائلة. بمعنى آخر ان فاز هذا الخيار الثنائي فذلك انجاز كبير، وان تحصل على الأدنى أي كتلة برلمانية وازنة فهي خطوة اخرى في اتجاه مزيد الفرز وتقوية اسباب وشروط هذا البديل.
بقلم: طارق الكحلاوي