من المهم التمييز بينهما لأننا في كلتا الحالتين نتعامل مع نظريتين مختلفتين للمواطنة. بالنسبة لأرسطو والى حدّ ابن خلدون، المدينة هي من طبيعة الأشياء والإنسان حيوان مدني، هناك إذا أسبقية للمدينة أي للمجتمع على الفرد. ويترتب عن ذلك أن المواطنة لا تختلف عن الإنسانية، بل هي تحقيق كامل لها. وفي المقابل، فإن انعدام المواطنة يساوي انعدام الإنسانية، وهو ما يفسر وضع المرأة والعبيد والبرابرة في اليونان القديمة كما في باقي حضارات ما قبل الحداثة. وهذا حسب رأيي ما يمنعنا من الحديث عن حقوق الإنسان في هذه الحقبة. فالحقوق لا تنبع من الإنسانية بالمعنى البيولوجي، بل من قيمة مضافة إليها المواطنة أو الإيمان، إن الانتماء إلى المدينة أو إلى الأمة هو مصدر حقوق الانسان وليس طبيعته الإنسانية.
أمّا المفهوم الحديث للمواطنة فهو مختلف اختلافا جذريا. بالنسبة لفلاسفة الحداثة، انطلاقا من هوبس، انتماء الفرد إلى مجتمع ليس أمرا طبيعيا، الإنسان ليس حيوانا مدنيا فللإنسان الفرد أسبقية نظرية وتاريخية على المجتمع. وسوف تفترض الفلسفة الحديثة أن حالة طبيعة سبقت الحالة الاجتماعية. في حالة الطبيعة هذه يتمتع الإنسان بصفته فرد بحقوق طبيعية أي حقوق منبثقة عن طبيعته تلك. إلا أن انعدام السلطة والوازع وقانون يسوس الجميع زمن حالة الطبيعة سوف يجعل من الفردية فردانية ويحول حالة الطبيعة إلى حالة حرب، حرب الكل ضدّ الكل بانقلاب الحق في الحياة إلى حق القتل للدفاع عن الحياة. إن هذا التناقض الجوهري الذي يحكم حالة الطبيعة، وهو تناقض يتغير شكله من فيلسوف إلى آخر، سوف يدفع الأفراد إلى تركها والخروج منها لبعث المدينة على أساس عقد اجتماعي يبرمونه. وبالتالي ليس المجتمع معطى طبيعيا مفروضا على الأفراد بل هو من صنعهم ونتيجة لاختيارهم واتفاق إراداتهم، وهذا يعني أنّ المجتمع في خدمة الأفراد وليس العكس.
وبموجب هذا العقد الاجتماعي، ينشئ الأفراد المتعاقدون السيادة ويشكلون أنفسهم في جسم سياسي يتكون من «مواطنين». وهذا يعني أن المواطنة هي نتاج عمل إرادي وليست نتيجة الانتماء الى المدينة. ومن ثم، تتأسس ازدواجية الإنسان والمواطن. للإنسان الفرد، الذي هو أصل المدينة وأساسها، حقوق طبيعية، وعلى المواطن بصفته صاحب السيادة حماية هذه
الحقوق الطبيعية فهو الوصي على الحقوق الطبيعية للإنسان. وبالتالي ليست المواطنة غاية في حدّ ذاتها، بل هي وسيلة. كل البناء الفلسفي الحديث، بما في ذلك هوبس، يؤسس المدينة في خدمة الإنسان الفرد. و ينتهي تطور للفكر الفلسفي في هذا المجال منطقيا الى الارتباط العضوي بين المواطنة والديمقراطية.
إن لهذا المفهوم الحديث للمواطنة ثلاثة آثار:
يتعلق الأول بمسألة الهوية. فالمواطن يعرف نفسه بالجسم السياسي الذي ساهم في تأسيسه وينتمي إليه ويشارك فيه، أي الوطن. ولا تقصي المواطنة انتماءات أخرى تساهم في تحديد الهوية، ولكن المواطنة توظفها لخدمة الوطن.
والثاني يطرح مسألة الفردية. تتمثل وظيفة المواطنة في جعل المصلحة العامة تسود في اختيارات الفرد على المصلحة الأنانية. ولا يعني هذا التضحية بالفرد، بل إنقاذه عن طريق قمع السلوك الذي قد يؤدي إلى إعادة إنتاج حالة الطبيعة التي تركها الفرد من أجل الحفاظ على حياته وعلى حريته. وظيفة المواطنة هي اذا إنقاذ الفرد عن طريق قمع نزعته الفردانية.
أما الأثر الثالث فيتعلق بعلاقة المواطن بالدولة. المواطن في خدمة الدولة، ولكن الدولة التي يضع المواطن نفسه في خدمتها هي تلك التي تحترم بنود العقد الاجتماعي وتضمن حقوقه كفرد وكمواطن، أي دولة ديمقراطية. وتنص المادة 2 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن على أن «الهدف من أي جمعية سياسية هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية وغير القابلة للتصرف. هذه الحقوق هي الحرية والملكية والسلامة ومقاومة القمع».
هذا هو المعنى الذي توليه الفلسفة الغربية الحديثة للمواطنة. ولا بد من التأكيد على أن هذه الفلسفة لا تعنينا باعتبارها نظاما للأفكار، إنما الأمر الذي يهمّنا هو جدلية هذا الفكر مع الصيرورة التاريخية التي عرفها الغرب من القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر. هذه الفلسفة هي التي عقلنت هذه الصيرورة وأنتجت خطابها السياسي الذي تطور من تحرير الدولة من سطو الكنيسة والإمبراطورية الى تحرير الفرد من استبداد دولة الملكية المطلقة. وبالتالي، فإن المواطنة لا تشير فقط إلى النظرية الفلسفية، وإنما أيضا وقبل كل شيء إلى ديناميكية تاريخية طبعت الوعي الجماعي.
في تونس، كما في جميع الدول العربية الأخرى، لم تنبثق المواطنة عن صيرورة تاريخية أنتجت وعيا بالاستقلال الطبيعي للفرد ولم تتجذر في ثقافة تنبني على قيمة الفرد.
تبلور مفهومي المواطن والفرد انطلاقا من قرار سلطوي اسند بمقتضاه الباي، صاحب السيادة، إلى رعاياه حقوقا مدنية وسياسية. ويكفي أن نتذكر ظروف سن عهد الامان ودستور 1861 لكي نقتنع بذلك. ومن ثم فانه لا تلازم في الوعي الجماعي بين مفهوم المواطن من ناحية وفلسفة العقد الاجتماعي وقيمة الفرد من ناحية أخرى. لقد وقع إلصاق هذا المفهوم على رؤية ما قبل الحداثة للسلطة السياسية التي لم يتم استجوابها وتجاوزها. فالحقوق لا ينظر اليها على انها امكانيات قانونية تتأصل في الحرية الطبيعة للإنسان، بل بوصفها امتيازات غير مستقرة وقابلة للإلغاء يسندها صاحب السيادة بمحض ارادته وله ان يتراجع عنها. و لا ينظر إلى الواجبات على أنها ضرورية للحفاظ على الجسم السياسي، بل بوصفها تعبير عن إرادة صاحب السيادة وتجسيد لشوكته. والواقع أننا نشهد مسارا عكسيا للمنطق الفلسفي والصيرورة التاريخية الغربية. فبدلا من الانتقال من الفرد إلى المواطن ومن المواطن إلى الذات القانونية (بمعنى الشخص الذي يتمتع بحقوق وعليه واجبات) الذي يميز التطور التاريخي المذكور أعلاه، نلاحظ مسارا عكسيا والمرور من مفهوم الرعية إلى الذات القانونية (عهد الأمان) ومن الذات القانونية إلى المواطن (دستور 1861) ومن المواطن إلى الفرد (قانون الأحوال الشخصية 1956 ودستور 1959).
وأنتج هذا العكس للمسار المنطقي والتاريخي عددا من الآثار السلبية يمكن ملاحظتها بسهولة.
أولها ضعف الهوية الوطنية. إذ يعود ولاء المواطن إلى دولة الرفاه (Etat providence) أكثر من الوطن وفي هذا تشويه للعقد الاجتماعي. فالمشروعية معترف بها للدولة التي توفر الخيرات وليس للدولة بصفتها تشخيص قانوني للوطن والطاعة ترجع إلى سلطة الدولة وتستوجبها شوكتها وليس إلى القانون بوصفه تجسيد للإرادة الجماعية.
ويترتب عن ذلك أن مصطلح الدولة لا يفيد في الوعي العام معنى الشأن العام وهو المعنى الأصلي لكلمة جمهورية (res publica) ولا يتحقق الربط العضوي بين الديمقراطية والمواطنة. وعلاوة على ذلك، فإن بقاء الخوف وفعاليته ورسوخ الولاء الشخصي وطغيان المصلحية الأنانية وراء الشكل الحديث للمواطنة يحول الديمقراطية إلى فكرة مجردة والى آلية انتخابية ليس إلا.
كما يؤدي عكس للمسار المنطقي والتاريخي إلى تشويه العلاقة بين المجتمع المدني والدولة. بدلا من الفصل بينهما نلاحظ انفصاما يجد مفاتيح فهمه في مفاهيم ما قبل الحداثة: الشوكة والعصبية. اذ ينتج عن تعالي الدولة و اعتمادها على قوتها وقدرتها على المن بالخيرات هيمنة المجال العام على المجال الخاص. وخلافا لمبدأ الفصل بين المجتمع المدني والدولة، لا يوجد حد للسلطة السيادية، ولا يتمتع المجتمع المدني بالاستقلال الذاتي من حيث المبدأ. فوفقا لمبدأ سبينوزا، الدولة لديها الحق بقدر ما لديها السلطة. ولكن في الوقت نفسه هناك خصخصة للفضاء العام. فالمشروعية التي تستمدها الدولة من كونها مزودا للخيرات تولّد تصورا للسلطة يجعل منها موضوع ملكية. هذا المفهوم للسلطة يفسر بدوره أن الدولة تعتبر امتدادا لجزء من المجتمع وأنه ينظر الى السياسي على أنه ممثل للمصالح الخاصة في المجال العام، من ذلك السؤال الدراماتيكی الذي نطرحه كلما نواجه مشكلا وان كان بسيطا : «من أعرف؟»
وهذا هو في رأيي، السبب الأساسي للأزمة التي نعيشها اليوم: إن أزمة دولة الرفاه هي في الوقت نفسه أزمة مواطنة أي أزمة هوية، وهي أزمة تأخذ شكلين متناقضين متحدين: تفاقم النزعة الفردانية من جهة والانغلاق الفئوي من جهة أخرى. ان هذا التعبير المزدوج عن أزمة المواطنة واضح بشكل خاص في تونس. رد الفعل الفرداني الأناني ورد الفعل الانغلاقي الفئوي يطغيان على الحس المواطني. وفي كلتا الحالتين تعبر ردود الفعل هذه عن خيبة أمل تسبب فيها عدم بناء المواطنة والدولة على قاعدة سليمة.
هل تجاوزنا اليوم هذه الوضعية؟ تفترض الاجابة عن هذا السؤال الحسم في ما وقع بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. هل كانت انتفاضة ضدّ سلطة استبدادية فقدت شوكتها وقدرتها على العطاء أم ثورة تؤسس للحرية والمواطنة؟ أظنها كانت حبلى بالاثنين في الآن نفسه لكنها لم تنجب غير الأولى. لقد استمرّ النّظر إلى السلطة السياسية على أنّها كيان متعال، خارج عن المجتمع، غريب عنه بينما هي إفراز لانتخابات شهد الجميع بنزاهتها. ويعزى هذا إلى أن الحاكم بصفة خاصة والمجتمع السياسي بصفة عامّة لا يزال ينظر إلى المحكوم على أنّه رعيّة وليس على أنّه صاحب السيادة ويعتقد أنّه لا يقدر إلا على الإدلاء بصوته أو، بالأحرى، إهداءه أو بيعه وأنه في ما عدى هذا بل وفي هذا أيضا قاصر لم يرشد بعد وانّه لا بدّ له من وليّ. كما أنّ المحكوم لا يزال ينظر إلى الحاكم على أنّه «حاكم»، صاحب العصا ومالك الجزرة وأنّه ليست له حقوق بالمعنى المواطني للكلمة بل له استحقاقات وليس عليه واجبات غير تلك التي تستحقّها عائلته أو عشيرته. لا نزال في ثقافة ووعي ما قبل الحداثة.
انه لا معنى لثورة سياسية لا تنير سبيلها ثورة ثقافية ونخال أن إعادة بناء النسق الذي يربط الفرد والمواطن بالوطن والدولة من أولويات العمل التربوي والجمعيّاتي وأنّ هذا لا يقل تأكّدا من تجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيش.
ألقيت هذه المحاضرة بمنتدى الجاحظ
يوم 30 ديسمبر 2017 وننشرها اليوم بإذن من صاحبها.