إن خاصيات اللامركزية تتمثل بالذات في نقل فعلي للصلاحيات من المركز إلى الجهات و في نقل للموارد المالية والبشرية وفي ضمان مبدأ التصرف الحر في الشؤون المحلية. ولقد رسم الدستور الطريق إلى اللامركزية. فقد وضع في بابه السابع كل المبادئ التي من شأنها تأطير عملية إصلاح الدولة. فلم يكن منتظرا من القانون أن يعيد صياغة مبادئ دستورية سابقة الوضع بقدر ما كان ينتظر منه أن يمدنا بتصميم للهندسة الجديدة للدولة وأن يمدنا بخارطة طريق لإقامة لامركزية فعلية.
وفي هذا المجال ليس لنا أن نعيد اختراع الدولاب كما يقال، فقد سبقتنا العديد من الدول على هذه الطريق، وهي تقدم لنا تجربة ثرية ومتنوعة : بلدان ذات نظام فيدرالي مثل ألمانيا والنمسا وبلجيكا. وأخرى ذات نظام قائم على استقلالية الجهات كإيطاليا واسبانيا والمملكة المتحدة وبلدان أخرى قائمة على نظام وحدة الدولة من قبيل فرنسا وبولونيا.
لكن هذه التجارب، على تنوعها وخصوصية مكوناتها، تتفق على ما هو جوهري في اللامركزية: النقل الفعلي للصلاحيات وللموارد المالية والبشرية واستقلالية الجهات عن المركز. ففي كل هذه البلدان انتقلت قطاعات من الحياة الوطنية بأكملها من المركز إلى الجهات: الصحة والتعليم والنقل، والمواصلات والبيئة والسياحة والثقافة والرياضة، وحديثا التصرف في المطارات والمواني والنقل على السكك الحديدية الخ. وفي كل هذه البلدان يوازن نصيب الجماعات المحلية من الضرائب العمومية (الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة والضرائب العقارية المختلفة الخ) نصيب السلطة المركزية إن هو لم يزد عنه. وفي كل هذه البلدان يساوي عدد العاملين في وظيفة الدولة عدد العاملين في سلك الجماعات المحلية بل ويزيد عنه في معظم الحالات.
عن كل هذه المسائل لا ينبس المشروع الذي هو بين أيديكم ببنت شفة.
وينكشف سر هذا الصمت حينما نقارن بين النسخ المختلفة للمشروع وعلى وجه الخصوص بين الفصل 125 من النسخة التي هي بين أيديكم والفصل 124 من نسخة شهر فيفري. نكتشف على ضوء هذه المقارنة أن النسخة الحالية تخلت عن تحديد أهداف اللامركزية بوضوح في مجال نقل الموارد المالية. ويكشف هذا التراجع عن تردد بل عن خوف من اللامركزية وعن رغبة في ترحيلها إلى مستقبل غير معلوم. كل شيء يشير إلى أن هذا المشروع صيغ في ظلمة أروقة المكاتب بعيدا عن الديمقراطية التشاركية التي ما فتئ المشروع ينادي بها. فالتصديق على هذا المشروع بهناته وضبابيته وضعف الإرادة السياسية فيه، لن ينتهي سوى إلى مزيد من تأخير موعد اللامركزية إلى سنوات طويلة أخرى.
لا يمكننا القبول بذلك. لقد جاء دستورنا مستجيبا لانتظارات جهاتنا ولا يمكن لنا أن نخيب ظنها لمدة أطول. لم تعرف جهاتنا الهدوء منذ الثورة: إنها تطالب بالتنمية وبالخدمات الصحية والتعليم والتكوين وبالتجهيزات العمومية في مختلف المجالات (الثقافة والترفيه والرياضة وغيرها) إنها تطالب بنصيبها من الثروات الوطنية وبمزيد من الانصاف وبتكافؤ الفرص. ونتظاهر نحن بتفهم مشروعية مطالبها ولكننا من ناحية أخرى نلقي بظلال من الشك على دوافعها وعلى « اليد الخفية » التي تحركها.
لا تقدم اللامركزية علاجا سحريا ولكنها تمثل الإطار الأسلم لتحميل سكان مناطقنا وجهاتنا المختلفة المسؤولية وتمكنهم من الاضطلاع بشؤونهم بأنفسهم.
أناشدكم باسم المسؤوليات التي تضطلعون بها وباسم حب الوطن الذي يجمعنا بأن تبادروا بصفتكم نوابا عن الشعب على اختلاف توجهاتكم بتنظيم استشارة واسعة، هذه الصائفة، في الجهات، تشركون فيها المواطنين ومصالح الدولة على حد سواء قصد تحديد مجالات نقل الصلاحيات وحجم نقل الموارد البشرية والمالية بوضوح ومراحل انجازها في أفق زمني معلوم.
إننا ولا شك في حاجة إلى قانون جيد. إنه لأمر ضروري لكننا نعلم جميعا أنه غير كاف، فإلى ذلك نحن نحتاج إلى تكوين الموارد البشرية وإكساب الدولة الخبرات الضرورية، استعدادا إلى هذا الانتقال العظيم، كما نحتاج إلى موارد مالية ضخمة. وكل هذا يتطلب وقتا، ولكنه يتطلب، قبل ذلك ومن أجل ذلك، رؤية وإرادة سياسيتين.
وإني لأضع على ذمتكم، إسهاما مني في هذا الحوار، دراسة مقارنة أجريتها حول مشروع القانون».
وفقكم الله
أحمد نجيب الشابي
في 14جوان 2017