عصر لم يعد يفرق بين الناقة والجمل

"الشخص المثالي بالنسبة للدولة الشمولية ليس

النازي المقتنع ولا الشيوعي العقائدي،بل ذاك الشخص الذي لم يعد يميز بين الحقيقة والخيال،وبين الصواب والخطأ."
(Hannah Arendt)
ورد في "مروج الذهب ومعادن الجوهر " للمسعودي الطرفة التالية: بعد معركة صفين بين علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان ، دخل كوفي من انصار علي الى دمشق على ظهر بعير ، فتعلّق به أحد الدمشقيين وقال "هذه ناقتي ، أُفتكت مني يوم صفين " وشهد خمسون رجلا انها ناقته ، ووصل الامر الى معاوية الذي امر الرجل بتسليم "الناقة" الى المدعي فورا، فقال الكوفي : "اصلح الله الأمير ، انه جمل وليس بناقة." عندها اخذ معاوية الرجل على انفراد وقال له "ابلغ عليّا انني اقاتله بقوم لا يفرقون بين الناقة والجمل."
ولئن أراد المسعودي ان يبيّن دهاء معاوية ومرونته في التعامل مع الواقع،فان استدعائي الطرفة اليوم جاء بغاية طرح معضلة اصبح العالم يعيشها حين بدأت تغيب السياسة ببعدها العقلاني وتعود الى ما قبل قيم التنوير والحداثة، حيث تسيطر لدى العامة وحتى الخاصّة العواطف الجياشة والأفكار المسبقة والانحيازات لتغطي عن الحقائق الموضوعية والترويّ وليستغلها قادة شعبيون للمخادعة والتضليل.
سنة 2016، اختار قاموس أكسفورد كلمة "ما بعد الحقيقة"(post-truth) ككلمة العام ، مما يشير الى ان زمن الحقيقة قد بدأ في الافول ، وان القضايا المعرفية تحوّلت الى قضايا تحفيزية تحكمها الميولات الخاصة ، وان عموم الناس لم يعد يهمهم البحث عن الموضوعية بقدر اهتمامهم بالتعبير عن نداءات عواطفهم ومعتقداتهم الخاصة، مهما كان ابتعدت هذه العواطف والمعتقدات عن الواقع او "انحرفت اخلاقيا "على حد تعبير الاكاديمي والكاتب البريطاني ، مايكل هانون (Michael Hannon).
الذكاء الاصطناعي :
بالنسبة لعديد الاكاديميين ،فان الذكاء الاصطناعي يشكل منعرجا مهما في مسار ما بعد الحقيقة ، اذ يشيرون الى ان سنة 2016 كانت سنة مفصلية حيث بدأ انتاج معلومات اصطناعية تفوق المعلومات التي يديرها فاعلون طبيعيون ، والنتيجة ان الحدود بين الحقيقي والاصطناعي وبين الواقع الملموس والافتراضي أصبحت مغبشة ومربكة.
وفي عالم تسوده الانفعالات والمعتقدات الشخصية التي أصبحت اكثر تأثيرا من الحقائق الموضوعية ، فقد وقع التشكيك في كل الأدلة بما فيها العلمية والتجريبية ، ووجدت نظرية المؤامرة تربة خصبة في هذه البيئة من خلال نشر بيانات مضللة واختلاق أعداء متخيلين ، وهو ما ساهم في انتشار التضليل الإعلامي وانصاف الحقائق واضعاف الفهم المشترك للواقع .
فخلال سنة 2019، نشرت مجلة اكسبرس الفرنسية تحقيقا بعنوان "الظلاميون الجدد" قالت ان الدراسات اثبتت ان واحدا من كل ثلاثة فرنسيين يشكك في جدوى اللقاح ، وتشير دراسة قامت بها مؤسسة IFOP لصالح مؤسسة جون جوراس ان 21 بالمائة من الفرنسيين يعتقدون في نظريات المؤامرة وان هؤلاء ينكرون العلم وتجاربه باسم أيديولوجية او معتقد شخصي ...و ان الشباب هم الأكثر تشككا في جدوى العلم ، والاسوأ ان قائمة "الظلاميين الجدد " الذين يشككون تضم أطباء ومهندسين وباحثين...حتى ان البروفيسور مونتانييه ، مكتشف فيروس نقص المناعة والحائز على جائزة نوبل في الطب سنة 2008 ، اصبح يشكك في جدوى اللقاح، مما أدى الى توبيخه من قبل عمادته."
وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحديد خياراتنا و ميولاتنا وحواراتنا ، اذ هي لم تعد فضاءا للنقاش ، بل هي غرف مغلقة ، احيانا ، نحاور عبرها أولئك الذين نلتقي معهم فكريا أو ايديولوجيا أو عاطفيا، وهو ما يقلل من التواصل مع المختلف ويزيد من تفتيت المجتمع وتقسيمه الى مجموعات متنافرة، وفي هذا الوضع ومع التحرير الشامل لسوق المعلومات ، حيث تنتشر التيارات المعادية للعلم والحقيقة والواقع "يصبح الصحفيون انفسهم عبيدا لنظام معلوماتي شديد التنافس ، وينتهي بهم الامر الى ربط عرض المعلومات بالطلب حتى لو كان ذلك على حساب تشويهها."
ما بعد الحقيقة والسياسة :
يخلص بعض الخبراء والاكاديميين الى ان العصر الحالي ، هو عصر المغالطات دون وجل، ففي كتاب "عصر ما بعد الحقيقة : الكذب والخداع في الحياة المعاصرة" يقول رالف كييز Ralph Keyes الكاتب والمفكر السياسي الأمريكي ، ان الناس في الماضي كانوا يشعرون بالخجل وحتى الذنب حين يكذبون او حين تُكتشف اكاذيبهم ، "اما اليوم فانهم يغيرون الحقائق والوقائع دون ان يرف لهم جفن... فما يميّز عصر "ما بعد الحقيقة" ليس اللامبالاة تجاه فكرة معرفة الواقع ، بل ، احيانا،انكار وجود ذلك الواقع تماما."
انه عصر الساسة الشعبويين الذين يستغلون طغيان الاحكام المسبقة والاحقاد الأيديولوجية والجهل لدى مواطنيهم ويعملون على تعزيز هذه المشاعر عبر الأكاذيب والدعايات المضللة. ولما كان الهدف هو البقاء في السلطة وتحييد كل الخصوم ، فيجب اختلاق عدوّ يحملونه كل اخفاقاتهم، واحيانا ما يكون العدوّ غامضا وغير محدد المعالم ، فهو "الخائن" و"المتآمر "و"الفاسد" و"المعرقل لمصلحة الوطن" ... وهي اوصاف شنيعة تؤثر على ذهنية الشعب المتلقي – على الأقل لفترة ما- وفي المقابل يؤكد "الزعيم الشعبوي انه هو الوحيد القادر على الدفاع عن مصلحة الشعب والوطن."
وإذ كان ما بعد الحقيقة هو العرض المشوه للحقيقة والواقع، فان "المتلقي ، أحيانا، لا يرغب في معرفة الحقيقة او سماعها او انه يريد ادراكها بالطريقة التي ترضي عواطفه وميولاته".ولقد استفاد القادة الشعبيون من هذه الفوضى :في 3 افريل 2020 ، حددت صحيفة الواشنطن ما لا يقل عن 18000 "ادعاء كاذب او مضلل " صادر عن الرئيس ترامب خلال ولايته الأولى وبالتالي" فهو قد نجح في دفع الولايات المتحدة وأوروبا الى عالم ما بعد الحقيقة ، حيث لا يمكن الوثوق بالمعلومات مهما كان مصدرها.". ولكن هل ينال ذلك من سمعته وهل يُحاسب على تضليله؟ تجيب الصحيفة :"ذلك لا يغيّر شيئًا. بالعكس ،فان الانتقادات تُقوّي أنصاره في قناعتهم بضرورة دعمه أكثر، طالما أن وسائل الإعلام تقف ضده."
العيب فينا؟
اما بالنسبة للحاكم العربي فان عصر "مابعد الحقيقة" يُعتبر رافدا مهما لتأبيد سلطته وفرض سلطانه، خاصة وان الياته الإعلامية والمعرفية تكاد تحتكر المشهد الاعلامي وان زبانيته تتكفل بالتضليل، بل وقد شعر اليوم بمزيد الاطمئنان ، خاصة وان انتشار الشعبوية ذات النزعة الاستبدادية في عديد الدول الديمقراطية قد جعلها تقترب من أسلوب حكمه وتسعى لاستعمال وسائله رغم مقاومة المؤسسات هناك. لكن هل يعني هذا الاستسلام لعالم ينبذ الواقع والحقيقة ؟ ربما القضية الأساسية تكمن في مدى المسافة الفكرية والنقدية التي نأخذها،نحن، من انحيازاتنا وكذلك من محيطنا الضيّق .
قال المسعودي ، عند ذكر الطرفة ان تأثير معاوية في اتباعه كان قويا ، حتى انه صلّى بهم صلاة الجمعة يوم الأربعاء عند مسيرهم الى صفين... طبعا قراءات الخبراء الاجتماعيين والسياسيين اليوم تختلف ، اذ يرون في المجمل اشكاليتين هامتين تقفان حاجزا امام ادراكنا للحقيقة والواقع : الأولى متعلقة بشخصيتنا ، حيث نميل دائما الى الانسجام مع معتقداتنا السابقة ومواقفنا وسلوكنا المعتاد ونشعر بعدم ارتياح عندما يصدمنا الواقع ونفقد ذلك التوازن النفسي والثانية ، اننا نفضّل التناغم مع من حولنا ومع من تربطنا معهم علاقات عاطفية او أيديولوجية على ارهاق البحث عن الحقيقة والتثبت وتجاوز رواسب ذاتيتنا...لذا هل نلوم الخمسين دمشقيا الذين لم يدققوا في جنس البعير قبل الشهادة؟

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115