نهاية أسطورة المستبد العادل؟

"إنما العاجز من لا يستبد"؟

البداية كانت مع شذرات الإرهاصات النهضوية العربية وتفاعل بعض المفكرين ، سلبا وايجابا، مع سياقات الحداثة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ففي مقال نُشر سنة 1899 ، قال الشيخ محمد عبدة: "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل ...يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، ان لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة الا ونظرته الأولى الى شعبه الذي يحكمه ." وقد اقترح الشيخ ان يُعطى المستبد حكما مطلقا لمدة 15 سنة "يثني خلالها اعناق الكبار ويعالج ما اعتلّ من طباعهم بانجع الوسائل ومنها البتر والكي " ويقوّم "نفوس الصغار بالتثقيف" ، متوقعا ان يتمكن الحاكم ، في هذه الفترة القصيرة من تحقيق "ما لم يصنعه العقل وحده خلال خمسة عشر قرنا."
ومعلوم ان الاستبداد، الذي ربطه محمد عبدة بالعدل يعني الحكم المطلق دون الخضوع لقانون او مؤسسات، ولكنه، حسب اعتقاده، استبداد مشروط بتحقيق العدل بين الناس، فالمستبد، بعدله ورجاحة عقله وحزمه ، يدرك مصلحة شعبه و يتخذ القرارات الصائبة لفائدته، لذلك يجب ان يُهاب و يأمر فيُطاع ويحكم فنُنفذ أحكامه...
وقد ارجع المفكر المغربي، محمد عابد الجابري ، الجدل الموجود اليوم حول جدوى الاستبداد في الحكم الى الاختلاف في مفهومه بين الثقافة العربية الإسلامية من ناحية ، حيث يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرارات العادلة والصائبة مع وجوب التنفيذ، ومن هنا جاءت عبارة "إنما العاجز من لا يستبد" ،وبين المرجعية الغربية التي ترى في المستبد عنوان الطغيان، من ناحية أخرى ، ويعترف الجابري ان نموذج "المستبد العادل" يظل مفهوما "نظريا" غير قابل للتطبيق ، وهو ناتج أساسا عن " تأويل للفكر الإسلامي لا عن الإسلام ذاته" وعن غياب للديمقراطية في تقليدنا وتراثنا.
نعيش على وقعالنوستالجيا:
"ليس الحنين ذكرى ، بل هو ما يُنتقى من الذاكرة" حكمة أطلقها الشاعر الفلسطيني محمود درويش ، ولكن ذاكرتنا ليست انتقائية فقط ، بل هي مهووسة بالماضي ، بكل رواسبه الثقافية والسياسية والدينية ، نأخذه دون تمحيص او نقد وننزع عنه كل ما يستحق التدقيق والمراجعة ، ثم نلبسه ثوب طهارة وقداسة و نحن نفعل ذلك لان الواقع محبط وقاسي ، وهذا لا ينطبق فقط على التاريخ البعيد بل أيضا على تعاملنا مع رموز تاريخ قريب، نروم كثيرا المبالغة في اطرائهم ونخلط الحقائق التاريخية بالأساطير التي نبنيها ... و الحقيقة ان هناك شبه إجماع لدى علماء النفس والاجتماع ،اننا ، أمام عجزنا عن فهم الحاضر و استنباط نظرة استشرافية و واقعية للمستقبل ، نحفر في تاريخنا بحثا عن شخصية او فترة "ذهبية "نحيل اليها كل احلامنا، أي بعبارة اخرى ، نقوم باستحضار الماضي كبديل لواقع لا نقدر على مواجهته ومستقبل لا نستطيع رسم ملامحه، نستدعي صورة الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ، عبر ورعه وزهده وعدله، ونفتش حولنا كي نجد بعض ملامحه في شخص ما،غير عابئين بالفارق الزمني وتطور أساليب الحكم وتعقيداتها وترقي تنظيمها ودون ادراك ان لكل مرحلة في التاريخ ظروفها ومتطلباتها وقيمها وتمثلاتها...
ولا يقتصر الأمر على الحنين الى الخليفة الثاني ، فاغلبنا يتمثّل قيادات كاريزمية حكمت شعوبها بالحديد والنار وتفردت بكل السلطات وساقت أوهاما كثيرة ، شخصيات مثل جمال عبد الناصر وصدام حسين وبشار الأسد وغيرهم، ونمحو كل ما علق بهم من انتهاكات جسيمة وما تعرّض له معارضوهم من تعذيب وسجن وقهر وتشريد، وما أتوه من نزوات مجنونة وحسابات خاطئة وتهور غير محسوب وما خلفه ذلك من دمار لأوطانهم، لنذكر باسى انهم "حاولوا استرداد كرامة الامة المهدورة ، وذاك في حدّ ذاته عدل "، كما قال احدهم بحسرة، ولا يقتصر الامر على الشعوب المقهورة ، بل حتى النخب الفكرية والسياسية ، التي لا يختلف تقييمها عن عامة الشعب ، فهي مهووسة بالبطولات الوهمية، تحنّ الى "قيادات تاريخية" ما كانت لتترك السلطة رغم المصائب والكوارث التي الحقتها بأوطانها لولا قدر الموت ودسائس الانقلابات والتدخلات الأجنبية... لكن لماذا فشل هؤلاء "الأبطال" في تحقيق الكرامة والعدل ولم يحرروا اوطانهم ؟ هنا يقفز معطى تبريري آخر يريحنا من عناء التفكير وجرأة النقد والنقد الذاتي : "انها المؤامرات المستمرة التي تستهدفنا ، نحن العرب والمسلمين" !!!وهكذا نعيش واقعنا معلقين بين وهمين، ، ماضي نحلم باجتراره ، ناكرين مصائبه واخفاقاته ومخاطر استعادته ، وحاضر لا نقدر على فهمه ولا على مواجهة تحدياته... فنرفضه ويلفظنا.
هل نستحق الديمقراطية؟
وحتى مع سنوات الديمقراطية بكافة ما تتيحه من فرص وإمكانيات ، فإننا لم نحولها الى مؤسسات صلبة وبرامج ومشاريع تثمر ، بل كانت بالنسبة إلينا محطة سجال عقيم وصراع مرير للفوز بالسلطة و كانت استحضارا لخصوماتنا الأيديولوجية والفكرية العقيمة، و بذلك لم تحدث نقلة نوعية في الثقافة السياسية ، بل و الانكى ان العديد منّا -أحزاب ومنظمات وشخصيات ثقافية- داعبته احلام المستبد العادل وراهن عليه، مما يحيل الى أسئلة حول مدى أهلية شعوبنا ونخبنا للديمقراطية ، أي هل نحن مؤهلون، فكريا وثقافيا لنظام ديمقراطي؟ وبعبارة أخرى ، الا يجب اولا الاعتراف بالمستبد الذي يسكننا جميعا ثم مواجهته؟ عبد الرحمن الكواكبي ، الذي اطنب في شرح مخاطر الاستبداد ، لا يفصل بين صفات الحاكم وشعبه، فيقول:
"وإذ سأل سائل ، لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب هو ان الله عادل لا يظلم أحدا ، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين . ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من اسراء الاستبداد مستبدا في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم ، حتى ربه الذي خلقه ، تابعين لآرائه وامره، فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار."
هنا يدعونا الكواكبي الى حقيقة مؤكدة ، ان لم نتمكن من القضاء على المستبد بداخلنا ، ونداوي الخلل في نمط تفكيرنا، فان أقسى ما يمكن ان نحققه حتى عبر انتفاضاتنا المتكررة...هو ان نستبدل مستبدا باخر .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115