في اليوم العالمي للبيئة: هل ينجو القرن الحادي والعشرين من غضب الأرض؟

في عالم تطغى عليه صور النزاعات المسلحة والتوترات الجيوسياسية والمعارك الاقتصادية الضروس

قد يبدو تخصيص مقال لليوم العالمي للبيئة، الذي يُحتفى به في الخامس من جوان من كل عام، ضرباً من العبث أو نوعاً من الترف الفكري. فما الجدوى، كما سيتساءل البعض بنبرة ساخرة، من الحديث عن نقاء الهواء وحماية الغابات المهددة بينما القنابل ما تزال تتساقط على أحياء غزة المحاصرة وشوارع خاركيف المدمرة، وبينما يتحول البحر الأحمر إلى مسرح للحروب الهجينة والمناوشات البحرية، وتخوض الولايات المتحدة والصين صراعاً محموماً على النفوذ والهيمنة العالمية؟

غير أن النظر بعمق وتأنٍ يكشف عن حقيقة مغايرة: إن التفكير في الشأن البيئي يعني في جوهره فهم المصفوفة الأساسية التي تحكم عصرنا الراهن. لم تعد البيئة مجرد ملف تقني من بين ملفات أخرى تتراكم على مكاتب السياسيين والخبراء، بل أضحت المفتاح الذهبي لإدراك التحولات العميقة والجذرية التي تعصف بمجتمعاتنا وتعيد صياغة مفاهيم الأمن والتضامن والسيادة من الألف إلى الياء. لقد تبوأت الإيكولوجيا موقع الصدارة كمسألة القرن الحادي والعشرين الكبرى، ليس بمعزل عن الأزمات والتحديات المعاصرة، بل في قلبها النابض.

الترابط العالمي: نسيج واحد بلا حواجز
يكمن أحد أهم إسهامات الفكر البيئي المعاصر في قدرته الثورية على هدم التصنيفات والقوالب التقليدية التي طالما قيدت فهمنا للعالم وحصرته في خانات منفصلة ومعزولة: الجزئي مقابل الكلي، المحلي في مواجهة العالمي، الداخلي منفصلاً عن الخارجي. اليوم، نكتشف أن العالم نسيج واحد مترابط الخيوط، متشابك العُقد، حيث كل خيط يؤثر في الآخر ويتأثر به في دورة لا تنتهي من التفاعل والتبادل.
خذ مثلاً إزالة الغابات المطيرة على نطاق واسع في الأمازون البرازيلية، هذا التدمير المنهجي لا يقتصر أثره على المنطقة المحلية، بل يسرّع من وتيرة الاحتباس الحراري العالمي ويؤثر بشكل مباشر على أنماط الهطول المطري في قارات بعيدة، من سهول أفريقيا إلى مرتفعات آسيا. وعلى المنوال نفسه، فإن كارثة تسرب نفطي في أعماق البحر المتوسط لا تقف عواقبها عند حدود تهديد النظم الإيكولوجية البحرية الهشة، بل تمتد تداعياتها لتطال اقتصاديات الصيد التقليدية، وتهدد الأمن الغذائي للمجتمعات الساحلية، بل وتصل إلى حد تقويض الصحة العامة للسكان على امتداد شواطئ المتوسط.
في هذا السياق، تشتغل البيئة كمنظومة عالمية متكاملة ومعقدة، حيث كل خلل أو اضطراب، مهما بدا محدوداً أو موضعياً، يتردد صداه عبر القارات والمحيطات في موجات متتالية من التأثير والتأثر. لقد كشفت الأزمة المناخية المتفاقمة النقاب عن الهشاشة البنيوية العميقة لحضارتنا المعاصرة وعن الوهم القاتل الذي نعيش في ظله. فما من حدود سياسية، مهما كانت محصنة ومحروسة، قادرة على صد العواصف المدمرة أو حبس موجات الجفاف القاتلة أو منع انتشار الأوبئة الفتاكة التي تتفشى حين نعبث بالتوازنات الطبيعية الدقيقة التي استغرق تكوينها ملايين السنين.
وهكذا ينهار أمام أعيننا وهم "الحصن المنيع" وتجد البشرية نفسها موحدة، رغماً عنها أحياناً، في مواجهة هشاشة وحساسية المنظومة البيئية الوحيدة التي تأويها وتحتضنها في هذا الكون الفسيح.
وحدة المصير في عصر التغير المناخي
إذا كان للفكر البيئي المعاصر من درس عميق وجوهري، فهو تعميق إدراكنا للمصير الإنساني المشترك والمترابط. الهواء الذي نستنشقه في رئاتنا لا يعترف بالخرائط السياسية المرسومة ولا يقيم وزناً للحدود الجمركية المحروسة، والمياه العذبة التي نرتوي منها لا تحتاج إلى تأشيرات عبور أو تصاريح إقامة. إن تدهور التنوع الحيوي وانقراض الأنواع شأن كوني يمس الجميع دون استثناء، حتى لو بدت منابعه الأولى ومصادره الأساسية في قارات نائية أو جزر معزولة.
هذا الوعي المتنامي والمتطور، وإن بقي خجولاً في بعض مظاهره وتجلياته، يرسم بوضوح متزايد معالم رؤية مشتركة للمستقبل ومخرجاً جماعياً من المأزق: تحدٍ حضاري وإنساني عميق يتجاوز حدود التنافس التقليدي بين الأمم والدول، ويعلو على الاستقطابات الأيديولوجية الضيقة والمصالح الحزبية الآنية.
في زمن التحالفات المتقلبة والمتغيرة، وفي عصر النزعات القومية المتصاعدة والشعبوية المتنامية، تأتي الأزمة البيئية المعاصرة لتذكرنا بحقيقة أساسية مفادها أن ثمة مصيراً بيئياً مشتركاً وأفق بقاء جماعي لا سبيل لمواجهته والتعامل معه سوى بالتضافر والتكاتف، بالتعاون البناء لا بالتنافس المدمر، بالتضامن الحقيقي لا بالأنانية القاتلة.
الهجرات والموارد: المسارح الجيوسياسية الناشئة
ليس التأمل في القضايا البيئية مجرد انشغال رومانسي بمصير الدببة القطبية في أقاصي الشمال أو بجمال الشعاب المرجانية في أعماق المحيطات، بل هو في الحقيقة غوص عميق ومباشر في صميم التحديات المعاصرة الكبرى التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين. الهجرة المناخية القسرية تقدم مثالاً بليغاً ومؤثراً على هذا الترابط العضوي بين البيئة والسياسة.
تشير أحدث التقديرات العلمية والإحصائية إلى أن ما يقارب ربع مليار إنسان قد يجدون أنفسهم مضطرين لمغادرة أوطانهم وديارهم بحلول منتصف هذا القرن، وذلك بسبب تفاقم ظواهر الجفاف المدمر والفيضانات الكاسحة وارتفاع منسوب البحار والمحيطات. هذه التدفقات والموجات البشرية الضخمة، التي كثيراً ما نختزلها في إحصائيات جافة وأرقام باردة، ستصبح بلا شك عوامل زعزعة وقلق إقليمي ودولي، قادرة على تأجيج التوترات السياسية القائمة وإذكاء نيران نزاعات جديدة.
على صعيد آخر، تشكل ما يُعرف بـ"حروب المياه" الميدان الثاني الذي تتشابك وتتداخل فيه الاعتبارات البيئية مع الحسابات الجيوسياسية بطريقة معقدة ومتفجرة. أنهار النيل ودجلة والفرات في المشرق العربي، ونهر السند في شبه القارة الهندية، ليست مجرد مجار مائية طبيعية أو معالم جغرافية على الخرائط، بل هي في الواقع الشرايين الحيوية النابضة لمناطق جغرافية واسعة وتجمعات سكانية ضخمة، ومصادر محتملة ومؤكدة للتوتر والصراع عندما تتناقص تدفقاتها أو يُهدد الوصول العادل إليها أو تسوء نوعيتها.
منطقة آسيا الوسطى، التي تشهد بالفعل ندرة متزايدة ومقلقة في مواردها المائية الثمينة، قد تتحول في المستقبل القريب إلى بؤرة توتر جديدة ومركز صراع إقليمي معقد يتداخل فيه البُعد البيئي مع الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية.
إلى جانب هذه التحديات الكبرى، يبرز على السطح الأمن الغذائي المهدد بشكل متزايد بفعل التصحر المتقدم والاختلالات المناخية الحادة، والتوسع العمراني الجامح والعشوائي الذي يلتهم المناطق الزراعية الخصبة، والأوبئة والأمراض الناشئة التي تفاقمها وتيرة إزالة الغابات المتسارعة وتدمير المواطن الطبيعية للكائنات الحية. الصحة العامة والأمن الاقتصادي والاستقرار السياسي، كلها أضحت اليوم مرتبطة ارتباطاً عضوياً ووثيقاً بالقضايا والتحديات البيئية.
الأخلاق بين الأجيال: أي إرث للأجيال القادمة؟
تكشف المسألة البيئية المعاصرة أخيراً عن بُعد أخلاقي وفلسفي عميق وجوهري، بُعد يتجاوز حدود السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا: أي عالم نريد أن نورثه للأجيال القادمة؟ وأي كوكب سنترك لأطفالنا وأحفادنا؟ هل سننجح في نقل بيئة صالحة وصحية للعيش الكريم، بيئة تفسح المجال الواسع لازدهار الإنسان وتطوره وللحفاظ على ثراء التنوع البيولوجي وجماله؟ أم أننا بصدد بناء عالم كابوسي مرعب، كون مليء بالكوارث والانهيارات المتتالية، حيث العنف والفقر والهشاشة والقلق يصبحان القاعدة لا الاستثناء؟
هذا الإرث البيئي الذي سنتركه خلفنا يتجاوز بكثير النقاش السياسي العادي والمعتاد، وحتى الجدل الأكاديمي النظري، ليطرح تساؤلات عميقة ومؤرقة حول طبيعة مسؤولياتنا الأخلاقية والحضارية الأساسية تجاه من سيأتون بعدنا. حماية الكوكب وصون البيئة ليسا ترفاً فكرياً أو زخرفاً روحياً أو موضة عابرة، بل هما شرط البقاء الجماعي ذاته، وضمانة استمرار الحياة البشرية على هذا الكوكب الأزرق الوحيد الذي نملكه.
التحدي الأميركي الصيني في مواجهة الضرورة البيئية
تطرح القضية البيئية في عالم اليوم إطاراً معرفياً ومنهجياً جديداً لإعادة تأمل وفهم علاقتنا الأساسية بالعالم من حولنا وبالطبيعة التي نعيش في كنفها. إنها تقدم قراءة مبتكرة ومتطورة للقرن الحادي والعشرين، قراءة تبدو فيها منطقيات الهيمنة والسيطرة التقليدية - العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية - عاجزة ومتجاوزة أمام الإلحاح البيئي المتنامي والضرورة الإيكولوجية الملحة.
أكبر مصدرين للتلوث والانبعاثات الضارة في العالم، الولايات المتحدة الأميركية والصين الشعبية، هما في الوقت نفسه أعظم وأقوى القوى الاقتصادية والعسكرية على وجه الأرض. صراعهما الدائر والمحتدم يصوغ ملامح النظام الدولي المعاصر ويرسم خارطة التحالفات والعداوات في العالم، لكنه يكشف بالقدر ذاته عن عمق مسؤولياتهما التاريخية والأخلاقية في مواجهة التحدي البيئي العالمي.
لا أميركا وحدها ولا الصين منفردة قادرتان على مواجهة الأزمة البيئية المتفاقمة والمتصاعدة التي تحدق بالكوكب، مهما بلغت قوتهما العسكرية أو نفوذهما الاقتصادي. القرن الحادي والعشرون لن يكون قرناً أميركياً خالصاً ولا صينياً محضاً؛ سيكون قرناً بيئياً بامتياز... أو لن يكون على الإطلاق.
هذا القول والتأكيد ليس مجرد شعار براق أو عبارة إنشائية رنانة، بل هو تشخيص واقعي ودقيق لعالم يشهد تحولاً جذرياً وتاريخياً في موازين القوى وأولويات الصراع. أمام التهديد الحقيقي لارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وأمام الوتيرة المتسارعة لتدهور الغطاء الغابي وتآكله، وأمام الخطر الداهم لانقراض آلاف الأنواع الحية سنوياً، تجد الجيوسياسة التقليدية نفسها مضطرة لإعادة تشكيل معادلاتها وحساباتها الأساسية.
لم تعد المسألة الأساسية من الذي يهيمن ويسيطر، بل باتت تتمحور حول سؤال وجودي أكثر عمقاً وإلحاحاً: هل ما زالت الأرض والطبيعة قادرتين على احتمال وتحمل أنماط عيشنا واستهلاكنا المعاصرة المدمرة؟
نحو حوكمة بيئية عالمية
ليس اليوم العالمي للبيئة مجرد مناسبة عابرة في الروزنامة السنوية نشير إليها بأصابعنا ثم ننساها، أو مجرد فرصة إعلامية للخطابات الرسمية الجوفاء والبيانات البروتوكولية المعتادة. إنه، في الحقيقة، لحظة حقيقية ومهمة للتذكير والتنبيه، وسط عالم تطغى عليه أصوات الحروب والنزاعات واللامبالاة القاتلة، بأن الإنسانية جمعاء تواجه مصيراً مشتركاً لا مفر منه ولا مناص من مواجهته.
فالكتابة عن البيئة والشأن الإيكولوجي في عصرنا الراهن تعني في جوهرها اختيار الجدية الكاملة والمسؤولية التامة في التعامل مع فكرة أساسية مفادها أن الأرض هي موطننا المشترك الوحيد، وأن مستقبلنا الجماعي مرتبط ارتباطاً عضوياً بقدرتنا على حمايتها والحفاظ عليها.
المحك والاختبار الحقيقي عظيم ومصيري: إعادة تأسيس العولمة والنظام العالمي على قواعد وأسس جديدة كلياً، قواعد التضامن البيئي الحقيقي والعدالة المناخية الفعلية، وحوكمة عالمية مبتكرة وفعالة قادرة على تجاوز منطق التنافس المدمر والصراع العقيم نحو آفاق التعاون البناء والشراكة الحقيقية.
فبغير هذا الوعي البيئي الجمعي والمشترك، وبدون هذا التضامن الإنساني الأصيل، يتهدد القرن الحادي والعشرون خطر حقيقي ومؤكد بأن يتحول إلى قرن الفوضى الشاملة والتشظي المدمر، قرن الحروب البيئية والنزاعات المائية والهجرات الجماعية القسرية.
في هذا الخامس من جوان ، في يوم البيئة العالمي لهذا العام، تقع على عاتقنا جميعاً - أفراداً وجماعات، شعوباً وحكومات - مسؤولية تاريخية وأخلاقية عظيمة: استيعاب هذا الإلحاح البيئي المتنامي ووضع اللبنات الأولى والأسس المتينة لميثاق بيئي عالمي جديد، ميثاق يقوم على العدالة والتضامن والمسؤولية المشتركة ليس لإنقاذ الأرض فحسب، بل لإنقاذ أنفسنا وضمان حياة كريمة للأجيال القادمة.

بقلم أمين بن خالد - محام ودبلوماسي سابق 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115