وكانت الازمات المتعددة والمتتالية والتي ساهمت في هشاشة عالمنا اليوم الى جانب الصراعات السياسة والحروب وراء هذه النقاشات والجدل في المجال الاقتصادي.
وشارك اكبر الاقتصاديين في العالم في هذه النقاشات لأهمية المواضيع المطروحة مثل جوزاف ستيفلتر وبول كريغمان الحاصلين على جائزة نوبل وعديد الاقتصاديين الاخرين مثل داني رودريك ودارون اسوموقلو وتوماس يبيكيت وغيرهم. ولئن غطت هذه النقاشات العديد من المواضيع والقضايا الحارقة في المجال الاقتصادي والسياسات العمومية مثل المديونية وتزايد الفوارق الاجتماعية والجباية وغيرها من المواضيع الهامة الا ان المسالة الاساسية والجوهرية التي يطرحها النقاش الاقتصادي اليوم هي مدى قدرتنا على بناء فترة رفاه جديدة او (une nouvelle prospérité) تضع نصب اهدافها عودة النمو السريع والقضاء على البطالة والتهميش الاجتماعي ورفع تحدي التغيير المناخي.
لقد عرف العالم منذ ازمة 1929 وخاصة اثر الحرب العالمية الثانية فترة رخاء ورفاه طويلة دامت على مدى سبعين سنة .ولئن تخللت هذه المرحلة التاريخية بعض الازمات خاصة في بداية السبعينات إلا أن الثقة في المستقبل وفي قدرة الاقتصاد على توفير شروط الرفاه والازدهار كانت غالبة وقادة السياسات العمومية. وقد ساهمت نتائج هذه السياسات في تحسين الوضع الاجتماعي في اغلب المجتمعات ومحاربة الفقر والتهميش الاجتماعي خاصة في البلدان النامية مما ساهم في بناء فترة استقرار طويلة .ولم تتوقف انعكاسات الرخاء والرفاه على المجال الاقتصادي بل ساهمت في نجاح النظام الديمقراطي وشكلت احدى ركائزه الاساسية .
فقد تم تقديم هذه النجاحات الاجتماعية والاقتصادية من نمو وقضاء على البطالة والتهميش الاجتماعي وصعود الطبقات المتوسطة ودخولها الى مجالات الاستهلاك الواسع (consommation de masse) على انها انجازات النظام الديمقراطي. فأصبح اقتصاد الرفاه والرخاء رديف المشروع الديمقراطي .
وقد عرفت هذه المرحلة التاريخية نهايتها في السنوات الاخيرة نتيجة تتالي الازمات لتنطلق رحلة البحث عن فترة رفاه ورخاء جديدة .
ولئن وقفت رحلة البحث على البلدان المتقدمة الا انها شملت كذلك البلدان النامية حيث عرفت عديد المنابر الكثير من النقاشات حول خصوصيات مشروع الرفاه والرخاء الذي يجب تشييده في هذه البلدان .
في أسباب البحث عن فترة رخاء جديدة في البلدان النامية
لقد عرفت البلدان النامية مرحلتين هامتين من الرفاه والرخاء منذ ستينات القرن الماضي ولئن ارتبطت مرحلة الرفاه الاولى بالسوق الداخلية إلا أن مرحلة الرخاء الثانية ارتبطت منذ السبعينات بالاقتصاد الدولي والعولمة. وكانت هاتان الفترتان وراء انتعاشة كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد عرفت اغلب البلدان النامية مستويات نمو قياسية خاصة بداية من التسعينات مما مكن الكثير منها مثل بلدان شرق اسيا والصين والهند وعديد البلدان في امريكا اللاتينية من البروز كقوى اقتصادية صاعدة اصبحت تدريجيا منافسة للقوى الاقتصادية التقليدية .
كما عرفت البلدان النامية في هذه الفترة التي امتدت على مدى ستين سنة تراجعا كبيرا للفقر والتهميش الاجتماعي وتطورا كبيرا في الطبقات المتوسطة التي لعبت دورا كبيرا في استقرار اغلب هذه البلدان .
وقد نجحت اغلب بلدان العالم الثالث في هذه الفترة في الخروج من الاقتصاد التابع الذي ورثته من المرحلة الاستعمارية لبناء اقتصاد متنوع وديناميكي ساهم في تحقيق مستويات نمو مرتفعة.
كان للرخاء والرفاه الاقتصادي الذي عرفته اغلب بلدان النامية انعكاسات كبيرة على المستوى السياسي إذ ساهم في ظهور فترة استقرار سياسي واجتماعي. ولئن اختارت عديد البلدان ان تكون عملية التحديث داخل انظمة سياسية قوية وتسلطية في بعضها إلا أن عديد البلدان الاخرى اختارت المشروع الديمقراطي من خلال بناء انظمة سياسية منفتحة ومتعددة .
لكن مرحلة الرخاء والرفاه التي عرفتها اغلب النامية خلال اكثر من نصف قرن بلغت مداها ودخلت في ازمة مفتوحة. وقد فتحت هذه الازمة مجال البحث والتفكير في مرحلة رفاه ورخاء جديدة .
ويمكن ان نشير الى خمسة اسباب اساسية كانت وراء انهيار فترة الرخاء وانطلاق رحلة البحث العسيرة عن مشروع رفاه جديد (une nouvelle prospérité).
• تهم المسالة الاولى والتي كانت وراء تراجع مشروع الرفاه الموروث من الدولة الوطنية التراجع الكبير لمستويات النمو في اغلب البلدان النامية. وقد عرفت البلدان الصاعدة وخاصة الصين والتي حافظت على مستويات نمو برقمين خلال اكثر من عقدين تراجعا كبيرا في هذا المجال مما اثر سلبا على قدرتها على لعب دورها كمحرك للاقتصاد العالمي. ولئن نجحت البلدان النامية في التصدي للصدمات كالحروب وجائحة الكوفيد إلا أن مستويات النمو عرفت تراجعا كبيرا مما يشير الى نهاية مرحلة الرخاء للدولة الوطنية .
• اما المؤشر الثاني لنهاية هذه المرحلة فيعود الى عودة البطالة والتهميش الاجتماعي وعدم التوازن بين الفئات الاجتماعية ليتراجع هذا التطور والنمو بعد ان نجح مشروع الرفاه الوطني في الحد من هذه الظواهر وتناميها ليجعل من الصعود الاجتماعي احد ركائز الدولة الوطنية .
• ويهم المؤشر الثالث الحروب التجارية التي يعيشها الاقتصاد العالمي منذ 2018 خاصة بين الصين والولايات المتحدة الامريكية مما جعل الاقتصاد العالمي مصدرا للمخاطر الكبرى بعد ان كان لعقود ركيزة اساسية للنمو في البلدان النامية .
• ويعود المؤشر الرابع لعجز وتراجع مشروع رفاه الدولة الوطنية الى التطورات التكنولوجية التي يعيشها العالم والبلدان المتقدمة مما اثر سلبا على مساهمة قوة العمل في تنافسية البلدان النامية. ان دخولنا في عصر الذكاء الاصطناعي كان له تأثير كبير على توزيع العمل وعلى سلاسل الانتاج العالمية التي ساهمت في مستويات النمو العالية التي عرفها العالم منذ سنوات .
• اما المؤشر الخامس فيخص انعكاسات التغيير المناخي على البلدان النامية وبصفة خاصة على القطاع الفلاحي مما دفعها إلى البحث عن مشاريع ورؤى جديدة تضع ضمن اولوياتها مسألة التحول المناخي والطاقي .
وقد مرت اغلب البلدان النامية بمرحلة تحول كبير وتغييرات عميقة نتيجة ازمة وتراجع مشروع الرفاه والرخاء للدولة الوطنية .وقد فتحت هذه الازمة فترة من النقاش والحوار وحتى الجدل حول مستقبل النمو والرخاء في البلدان النامية .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو مدى حاجتنا الى تصور استراتيجي لمشروع رفاه جديد ام انه يمكننا الاكتفاء بتغيير نمط التنمية كما كان الشأن في بداية السبعينات وبداية التسعينات ؟
يتبع ...