باعتباره جزءا هاما من الحوكمة السليمة. ويرى البعض ان هذا التوجه الفكري والسياسي هو حكر على الحركة النقابية بينما يمثل الحوار الاجتماعي في الواقع الأرضية المجتمعية الضرورية لتحقيق عقد اجتماعي يضمن جزء من الاستقرار وترسيخ الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
اما من الناحية التاريخية فان جذور نظرية الحوار من اجل العقد الاجتماعي ظهرت بعد الثورة البولشيفية وكان من اهم اهدافها الوقوف امام توسع مفهوم الصراع الطبقي الذي تنادي به الحركات الشيوعية الثورية والنقابات الانركية. وكانت الدول الإسكندنافية التي تجاور الاتحاد السوفياتي لها البادرة في الترويج لهذا التوجه السياسي باعتباره بديل لحرب الطبقات واسست لهذا الغرض ما يسمى اليوم بالاشتراكية الديمقراطية.
ولذا فان الحوار الاجتماعي هو ركن اساسي من منظومة فكرية وسياسية تعتبر انه يمكن الوصول الى توافق بين ممثلي رؤوس الأموال وممثلي الطبقة الشغيلة والسلطة الحاكمة دون عنف "ثوري" وتناحر بين الطبقات مما قد يؤدي للحروب الاهلية الطبقية.
وفي نهاية الامر فان ما يسمى اليوم بالحوار من اجل العقد الاجتماعي يمثل مجموعة من الاليات التي توظفها السلطة الحاكمة اساسا لتفادي المواجهة الطبقية من خلال التمهيد لحوار مستمر ومستدام مع كل الأطراف التي تعتبر ان السلطة مهما كانت نوعيتها هي امتداد للقوات الرأسمالية. وانتشرت هذه النظرية السياسية في عديد من الدول واسست منظومة العقد الاجتماعي التوافقي بين الرأسمال واليد العاملة.
اما في تونس فان نظرية الحوار والتحالف الاجتماعي والسياسي بين الرأسمالية المحلية والصنائعية وصغار التجار والطبقة الشغيلة ظهرت سنة 1948 حينما اعتبر الحزب الحر الدستوري التونسي ان المقاومة ضد الاستعمار لن تنجح دون التحالف الطبقي. ومن خلال هذا التصور اتصل صالح بن يوسف بكل المنظمات النقابية عمالية وفلاحية وصنائعية وصغار التجار لتأسيس جبهة وطنية دون أي مرجعية طبقية.
وتاكد هذا الاتجاه الحبيب حينما التقى بورقيبة بممثلي الحركات الاجتماعية سنة 1949 لتركيز تحالف اجتماعي ثابت ودائم قبل خوض المعركة المسلحة ضد الاستعمار اذ كان يعتقد ان التحالف الاجتماعي ضروري لضمان نجاح المقاومة المسلحة.
اعتقد ان الحزب الحر الدستوري آنذاك لم يكن يعي انه يضع الأسس الأولى للحوار الاجتماعي المناهض للمرجعية الطبقية في تونس. لكن تم التخلي عن هذا التوجه باسم الاشتراكية الدستورية سنة 1964 اثر انعقاد مؤتمر بنزرت المعروف بمؤتمر المصير حين تحول الحزب الحر الدستوري الى الحزب الاشتراكي الدستوري -حزب الدولة الواحد-والذي قرر ادماج كل الحركات النقابية ضمن هياكله وعوض النقابات بالشعب المهنية واقترب في تنظيمه وهيكلته من النموذج السوفياتي. وهكذا تخلى نهائيا عما يعرف بالحوار الاجتماعي مع كل الأطراف المعنية التي أصبحت تحت سيطرته باعتباره صاحب القرار والحقيقة المطلقة.
ومنذ ذلك التاريخ كل الحكومات دون استثناء جعلت من الحوار الاجتماعي منظومة شكلية دون محتوى لتأسيس عقد اجتماعي حقيقي. وتغلبت التحالفات السياسية على التحالف الاجتماعي وأصبح هذا التحالف السياسي يتوسع حسب مقتضيات ممارسة السلطة والتمسك بها. وانخرطت المنظمات النقابية واغلب منظمات المجتمع المدني في هذه المشهدية السياسية التي أدت الى الترويكا وحكومات التكنوقراط والتوافق وقرطاج 1 و2، الخ...
وفي هذا المناخ السياسي الانتهازي بطبعه تم تهميش الحوار الاجتماعي حتى بعد الثورة واقتصر الامر في الغالب على مفاوضات تقليدية حول الأجور ووضعية الطبقة الشغيلة، بينما برز التحالف السياسي بين الأحزاب السياسية كنموذج يضمن لها التشبث بمقاعدها سواء في البرلمان او في هياكل السلطة.
وحاولت كل هذه الاحزاب استدراج المنظمات النقابية ومنظمات المجتمع المدني في هذه المنظومة لخدمة التحالفات الظرفية ليحصل التوافق في تسيير شؤون الدولة. وبقي حسب اعتقادي جوهر الحوار الاجتماعي غائبا في تصور كل الأحزاب في تونس رغم محاولات عديدة خاضها الاتحاد العام التونسي للشغل للتذكير بان الهدف الرئيسي للثورة يتمثل في بناء نظام ديمقراطي واجتماعي.
ورغم تعدد الخطب حول مشروع النظام الديمقراطي والاجتماعي فان اغلب الاحزاب ليس لها برامج واقعية وملموسة لتحقيق هذا الهدف وكان استعمال هذا الشعار يرمي الى مغازلة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان عليه ان يتفطن لهذه المراوغة السياسية ويجعل من أولوياته بناء تحالف اجتماعي واسع، فاعل ومؤثر في سياسة تلك الحكومات.
اما اليوم إذا اعتبرنا ما جاء في خطب رئيس الدولة بان تونس في غمار معركة وطنية من اجل انقاذ البلاد من الازمات الاقتصادية وتوسع الفقر وتدمير المكتسبات العمومية وفقدان السيادة الوطنية فان هذا الوضع الخطير يحتاج فعلا الى حوارات اجتماعية تؤدي الى بلورة معالم عقد اجتماعي بين الحكومة والأطراف المعنية تأسيسا لعقد اجتماعي على المدى القريب والمتوسط.
وعلى هذه الحوارات الاجتماعية ان تأخذ شكلا جديدا يتجاوز التصور البيروقراطي والمركزي لتشخيص الوضع الحقيقي الذي تمر به البلاد وذلك عبر تنظيم حوارات قطاعية تشارك فيها كل الأطراف المعنية هدفها بلورة برامج إصلاحية في كل المجالات وتكون حجر الزاوية لمكونات العقد الاجتماعي الوطني.
الحوار الاجتماعي من اين والى اين؟
- بقلم رضا التليلي
- 15:15 21/03/2024
- 1151 عدد المشاهدات
كثر اللغو في العشرية الأخيرة حول الحوار الاجتماعي في تونس