وليس الأمر كذلك. بل إنّ التحدي الحقيقي، تحدّي القراءة، هو أن تجرّب أن تتنقل بين مختلف المداخل وأنت واثق من أنك لم تغادر، ولم تخرج، ولم تتبدل عليك المواضع: تماما كالذي يعيش زمانه في يومية السّوق والدّكاكين والأنهج والمواضع، قد تجري به الساق بين الموضع والموضع ولكنّه يظل داخل روح احدة: هذه الوحدة هي التي يرسمها رشيد بوحولة عبر جولاته التي لا تنتهي بين رسوم مدينة قررت أن تكون هي أسماء المدينة.
ومع ذلك هو يصرّ على أنه إنما يكتب وجها آخر للمدينة: هل هو وجه آخر؟ هل هي وجوه أم مداخل أم أزمنة في سماء قررت أن تمتد فوق القيروان وأن تتربع على عرشها لا تتبدل عليها؟ ومع ذلك ثمة نوع من البحة الحزينة هي بحة الذاكرة التي تسترجع بحنين لا يريد أن يغادر التفاصيل، بل هو يتمسك بها تمسكا يكاد يجعل التذكر ضربا من النقل المباشر ويجعل الماضي ضربا من الحاضر الذي يجري الآن.
فالمولد النبوي لا ينتمي إلى دائرة إحياء الذاكرة بل هو ضرب من الموعد السنوي مع الاحتفال. ثمة فيه شيء من دائرية العوْد، من عيديّة الزّمان، قوس تفتحه المجموعة في يوميّة جِدّها وجلَدها المصابر على فلاحة الحياة، تستعيد منه قوة قد يكون أفناها الجهد والعمل: "أليست الحياة حفلا بهيجا رائعا رائقا على مسرح السماء والأرض؟" هكذا يتساءل بوحولة، ربما ناسيا أن القيروان لا تحتاج إلى فتوى تبرّر هزلها ولعبها، وفرحها، أو ربّما هو يحصّنها ضدّ من قد يرى في دوريّة هذا الحفل نشازا عن كظومها التعبّدي القديم الذي أقامته بابا لتواصلها مع نفسها، ومرآة خطها الفقهاء لها حتى كادت تختنق منه: ما نحن بالملائكة ولا بالشياطين: "ما نجن بالزاهدين .. وما نحن بالملائكة .. ما نحن إلا بشر نخطئ ونصيب ونرتكب الخطيئة لنبصر الحقيقة". هكذا ينطق رشيد بوحولة وهو على أولى عتبات الكتاب. ليس المولد إلا فتحة في الزمان ضد ملائكيّتنا، ورخصة فيها وعليها، ولكن من عين بشريّتنا الخطّاءة، المراوغة، والآيبة كل يوم إلى ربّها بعد أن جرّبت أن تبتعد عنه لترى، لتبصر. لا يكاد يفتح رشيد نصه حتى يطرح سؤالا هو كالجبل على كل قيرواني: أترى نحن استثناء؟ وهل ينبغي أن نعيش قيروانيتنا كاستثناء؟ أم ترى نحن اعتراض على نص وسور وجامع يريد أن يغمرنا فنفلت منه بيوميتنا البسيطة لنشرد قليلا ونعود قليلا؟ هو يطرح السؤال وتجيب عنه كل فصول الكتاب: إننا الخطّاؤون ولكن في وداعة المحبّ العائد أبدا إلى ما (من) يحبّ.
هكذا تتوالى أحلام القيروانيين بين صفحات الكتاب، انسيابا ورفيف وجدان، ضحكا ونشيجا: لوحةُ القطار كأكداس القش جمعتها الرياح فلم تَنْتق ولم ترتِّب: كأنّما كان القطار حلما، كأنما كان تخيالا من تخيالات الرجاء والأمل المصدِّق: مصابيحُ برّاقة ولكن متكسّرة، أسوارٌ عالية ولكن يتوعّدها الحبابرةُ بالهدم والدّمار، "زمانٌ" جميل ولكن "مكانٌ" يكسِره كسرا ويُشظي اتّصاله على صخرة واقع لا يبالي أن يخيّب أحلام الناس، آمال تلتقي بأعظم "الشعراء والأدباء والفلاسفة"، وقصة تنتهي وقوعا على "الصخور". القطار حلم انتقال وحركة وأمل انخراط في حياة هي أوبة وذهاب وضجيج حياة حية، ولكنه انتهى صمتا وصفير رياح. من العجيب أن رشيد بوحولة يصف مأساة نهاية القطار القيرواني من خلال شبكة وجدانيات الطقوس: كأنما نهاية القطار هي نهاية ثقافة كاملة تعلّمها القيروانيون، هي ثقافة التوديع والشوق وتلطّخ المناديل بدموع المحبين والمحبات، وثقافة مراسلات العشق والغرام. ليس أنهم اكتشفوا كل هذا مع القطار، وإنما أن كل هذه الثقافة قد باتت مع القطار على توقيع وزمانية جديدة. رب سلطة لا تقدر أن مدّ طريق أو إقامة جسر أو زرع سكة حديدية، ليست أفعال استثمار واقتصاد فقط، وإنما هي قبل كذلك بناء ثقافة وإرساء أسس خيال جديد، ونسج لرمزيات لم تكن من قبل. ألم يقل ماركس إن نقل السكك الحديدية إلى بلدان الجنوب قد كان إقامة لبنية فوقية كاملة؟ رب سلطة لم تقدر أن إنهاء القطار كسرٌ لثقافة، وإحباطٌ لنسق آخر للزمان.
هل ستمر أيها القارئ مع "كوشة عراك" إلى قصة أخرى؟ لا شك أن الحامل هذه المرة غيرُ الحامل. لا شكّ أن المكان غيرُ المكان. لا شك أن الزائر غيرُ الزائر. يبدع رشيد بوحولة في سرد حكاية ليست حدثا ولا حتى أحداثا، ليست مكانا ولا حتى أمكنة، ليست رمزا ولا حتى رموزا. إنها حياة كاملة يصفها بوحولة من غير أن يصطنع لها لا فلسفة ولا تقنية: هو لا يكاد يلمس المزلاج، وما قولي كذا؟، هو لا يكاد يرمقه بنظرة، حتى تنفتح الكوشة بأشيائها، وموادها، وأصواتها، وأطباقها وروائها، وحمارها، وحبوبها، وأكياسها: كوشة عراك عالم كامل لايتسرب إليه أي تشويش. هي ليست معلما ضمن تنصيبة معالم أثرية أو تاريخية، هي ليست مزارا من مزارات العاشقين أو العائدين: إنها سجل هويات: "يعكس كل كيس فيها وكل لفافة هويات أهل حيّ الجامع (حومة الجامع) في غير عناء". ويضيف رشيد بوحولة هذه العبارة التي تطاول أعتى تنظيرات نظريات الفن: "الروائح عناوينهم". قد ألفنا "العلامات" دوال على مدلولات تحيل عليها. ما ابتدعه رشيد بوحولة أنه جعل المدلولات علامات على الدوال، وجعل المدلولات علامات على الأسماء: هذه البسيسة، هذه القهوة، هذا الدرع هي أسماء عائلات لا تتحرى أن تكتب على أكياسها أسماء ولا عناوين. كأنما الأشياء تتنقل من تلقائها إلى حيث يجب أن تكون. عجبا لأهل القيروان كم يبدعون في استعراف الأشياء من ريحها. كتب عبد الوهاب بوحديبة رائعته عن الروائح والعطور في ثقافة الإسلام، وها هو رشيد بوحولة يضع نصا من ابدع ما قرأت عن عالم الروائح وهو ما يزال لدى مزلاج كوشة عرّاك.
الكوشة عالم: شأن الأشياء في العادة أنها تعرَف بأسمائها ووظائفها: كلّما ذكرت الاسم أحالك الاسم على الوظيفة والاستعمال. ما فعله بوحولة هو أنّه جعل الشيء لا يحيل على الاسم فقط بل يستدعي عالم الأشياء التي ينتمي إليها ليرسم لك، بل لينصب أمامك شارعا كاملا، بل حيا كاملا قدَّ من البيوت والأسماء والروائح والأصوات. كوشة عراك مجمع البيوت، ومجتمع الشهوات، ومخزن الأدوات، ومكنز الأصوات، ومرسم الملامح والوجوه. كوشة عرّاك عالم يلحّ بوحولة على أنه بقي مختوما، حاملا لتاريخه وإحالاته، مشيرا من داخله إلى داخله، لا يمكن أن يسمعه إلا من يسمع، ولا أن يراه إلا من يرى، ولا أن يعرفه إلا من ألف المعرفة.
لا تكتمل المدينة إلا بحمامها. لا يمكن أن يقرأ حمام الزّغبار إلا من يتذكر صفحات بوحديبة عن الحمام في كتاب الإسلام والجنس. ربما كان الحمام جناح الإنساني في المدينة: "إعادة تشكيل المكان في الوجدان عبر التخيّل هو انبعاث الحياة والرّوح مبنى ومعنى لاستشراف مكان رفيع يليق بالإنسان وينسجم مع ما يتوق إليه وما ينشده من كمال وجمال حتّى لو كان ذلك من قبيل الحلم". قد يرتبط الحمام بمشاعر السعادة ووجدانيات الأمل والخيال. وقد تتظنن عليه الرقابة بأنه حمال غوايات لا شأن للعاقل بها. ولكنه قبل كل ذلك، وفي عيني الصبي الذي لم يدخل بعد عالم المباح والمحظور، عالم اللعب بأشياء الفرناق المتروكة، وعالم المتعة المرحة بمشاهد سيظل على مدى السنين يذكرها في سره ويحاذر أن يخرجها إلى العلن أبدا: تهادي النسوة عاريات، وتتراقص أمام عينيه أجسام الصبايا بأرديتهن الشفافة، وعين الصبي تكاد لا تغفل عن شيء. لا شكّ أن فطام الحمّام حدث مؤلم. من منا لم يعش ذلك الفطام الأليم:
"ولدكْ معادشْ امتاعْ حمامْ إنساءْ" فتجيبها:" شوفو، عصفور جنّه ".
ولكن الصبي حالم لأن العالم الذي يحيط به حالم. فكأنا الحمام مكان يلتقي فيه الناس متشابهين عراة عراء الأجسام من أي زينة وتزويق، ولكنه كذلك فضاء التماهي بين خيالات تتهادى من وراء ضباب البخار السميك، وبين خيالات تكاد لا تنطق عن نفسها، وكثيرا ما تخطئ العبارة عن حقيقتها، فلا تقول إلا تقريبا، وهلوسة.
كأنما القيروان المقدسة الفاضلة قد استصلحت لأهلها أمكنة تخفف فيها عنهم بعضا من قشف الحياة وغلظتها، فتطرّي من أحاسيسهم وترفع عنهم حرج جدية المشاغل اليومية، وتعيدهم إلى إنسانية جميلة ولا تنفك تراوح بهم بين أرض لذيذة محببة للنفس وسماء ترفعهم إلى أعلى عليين.
تلك أبواب القيروان: أيا منها قصدت لتدخل لم تجد نفسك في ناحية من أنحائها، بل في كل أنحائها معا.