فلا الرئيس ناقض الأقوال التي صرح بها السيد إبراهيم بودربالة في الجلسة العامّة لتعليل موقفه في إيقاف المداولات حول القانون، ولا النواب نفذوا وعيدهم بالاعتصام برفض النظر في أي قانون أخر قبل الفصل في الأوّل، الرئيس هو نفسه الذي حسم الموقف بإعادة القول بأنّ « التطبيع خيانة عظمى « ولا يقبل المزايدة من أي جهة كانت وبذلك رفع الحرج عن الجميع وذكّر بأنّه هو من يمسك بخيوط اللعبة ومن يرسم حدودها، الخاسر الأكبر في هذه الزوبعة هي الإطراف التي راهنت على مشروع القانون الذي قدّمته للعودة إلى الصورة بتمريره والظهور بمظهر الشريك المتميز والفاعل لرئيس الدولة في كلّ السياسات التي يتّبعها على الصعيد المحلى كما على الصعيد الدولي، وبعيدا عن عيون الناس المشغولة بمتابعة جحيم غزة وأخبار الملحمة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية تعود في هذا التوقيت إلى قصر باردو مناقشة قانون المالية لسنة 2024 كما جرت العادة في العشرية السابقة، الفرق الوحيد أنّ هذه المرّة تدور في هدوء دون وجود جمعيات ترصد وتلاحظ وتقيم كي تقيم الدنيا ولا تقعدها إن كان هنالك إخلالا بمعايير وقواعد مشروع الميزانية وقانون المالية، ولا وجود حول المجلس لتجمعات فئات مهنية أو اجتماعية تطالب بإدراج إجراءات لفائدتها أو رفض أخرى ترى فيها ضررا بمصالحها، كما اختفت من الأروقة تلك الوفود التي كانت تنتصب هناك لتمارس الضغط او ما يسمّى «اللوبينغ « لكسب لتمرير أو تعديل مقترحات كانت في قانون المالية، وحتى في مضمون المشروع المقدّم في قانون المالية لم يختلف في شيء عمّا كان يقدّم في تسمّى ب «العشرية السوداء « في خطوطه العريضة بمواصلة الاعتماد على الرفع في الأداء على الاستهلاك أو على أنشطة تجارية واقتصادية واللجوء للاقتراض لدعم الميزانية، والغريب هو العودة إلى سياسة الاقتراض بحجم كبير ودون تعليل خاصّة أنّ من بين ما قام عليه الخطاب المؤسس للمسار الجديد هو إدانة سياسة الاقتراض واعتبارها من أهمّ أسباب الكوارث التي لحقت بالبلاد، وحتى نشاط «الخبراء» الذي يتكاثف في مثل هذه الفترة بالحصص الإذاعية والتلفزية لم يتغيّر كثيرا سوى الغرق أكثر في التفاصيل وتجنب الربط بين السياسات العمومية والكيفية التي تدار بها شؤون البلاد وبين هذه المشاريع القانونية التي تمّ إعدادها دون مشاركة الفعاليات المهنية والاقتصادية والاجتماعية وفي أحسن الحالات وقع الاستماع لبعضها دون الأخذ برأيها، وفقدان حديث الخبراء لشيء من أهمّيته في المرحلة الحالية يعود في جانب إلى انشغال الناس بحرب غزة وكذلك إلى تضاعف أعداد هذه الشريحة واختلاط الحابل بالنابل فيها ولعب بعضهم دور المبررين أكثر من دور المفسرين، في المقابل حظيت حملات اعتقال بعض رجال الأعمال بمتابعة كبيرة الفايسبوك والإذاعات كل وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، تاريخيا شهدت البلاد حملة شبيهة لها سنة 1986 في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة في عهد الوزير الأوّل المرحوم محمّد مزالي، المشكل ليس في الإيقافات فالمفروض أنّ كلّ الناس متساوون أمام القضاء ومن واجب القضاء التحقيق في كلّ ما هو شبهات، لكن المشكل في المنحى الخطير الذي تتخذه هذه الحملات وكيف يستغلّها البعض لسحل سمعة الموقوفين ويفصل القضاء وتصفية حساباتهم الشخصية وإشاعة جو من الشكوك والكراهية بين الناس، وما لم تفهم الدولة أنّ كرامة كلّ مواطن من مسؤوليتها ومن أهمّ شروط ضمان المحاكمة العادلة فإنّ تشويش هذه الظواهر على الحياة العامّة وعلى محاولات الإصلاح وستأتي على الأخضر واليابس.
ظاهرة أخرى باتت ثابتة كالأمراض المزمنة في حياة الناس وهي الغلاء وندرة المواد ورؤية الصفوف أمام المخابز وإجابة المتاجر ليس لديهم لا سكر ولا زيت نباتي ولا قهوة ولا أرز وبالرغم من أنّ طريقة مجابهة هذه الظاهرة بالمداهمات الفجائية وبالتشهير بالمحتكرين في المطلق غير وبتكثيف الرقابة التابعة لوزارة التجارة لم تجدي نفعا ولم تنجح تسعير بعض المواد كالموز مثلا أو ما أدّى إليه شعار « الخبز الموحد» إلى تراجع خبز الفقراء وتكاثر الأنواع المرتفعة أسعارها نسبيا بل أنّ أسعار بعض المواد تواصل قفزها الجنوني كالسعر الصاعق لزيت الزيتون ، فإن هنالك إصرار على نفس الخطاب ونفس الطرق
وصورة واقع البلاد اليوم تلخصه مقولة أحد الناشطين أحسن تلخيص» منذ الاستقلال ونحن نشهد أنّ التغير يحصل كلّ مرّة على مستوي من يحكم ومن يزج به السجن والواقع يستمر على حاله دون تغيير يذكر.