لافرق كبير بين الجيولوجيا من ناحية الآثار الناتجة عن حركة الصفائح التكتونية من اهتزازت وكوارث، وبين النظام الدولي عندما تتحرك مكوناته الكبرى في بنيته التحتية، فكما أن القارات كانت يوماً ملتصقة ببعضها البعض كقارة واحدة ووحيدة، أيضاً النظام الدولي الحالي ببنيته التحتية ملتصق ببعضه البعض وذو بنية واحدة مدمجة تفرز ترتيب القوى الكبرى في النسق الدولي لذات النظام، والذي تشكل فيه الولايات المتحدة الأمريكية (دولة وحكومة) صورتها المطلقة، حيث يستغرب الكثير من قدرة هذه الدولة على فرض عقوبات ضد ثلثي العالم، ودون أن يستطيع أحد التحرر منها أو تجاوزها، فبالرغم من أن البعض يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عزلت نفسها باستخدامها التعسفي لسلاح العقوبات الاقتصادية، إلا أن الواقع أن واشنطن تعزل خصومها وأعداءها عن العالم الأمريكي القائم بذاته، ولو بقيت هي الوحيدة فيه، طالما أن وسائل وأدوات التحكم التي تتيحها البنية التحتية للنظام الدولي هي أمريكية بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن المعاملات التجارية وتحويل الأموال ومنظماتها، ماهي إلا بنية فوقية تقوم على ذات البنية التحتية الواحدة للنظام الدولي، الذي يمثل الدولار ومطابعه في البنك الاحتياطي الفيدرالي وأنظمة التحويل المالي بين البنوك والدول الجزء الظاهر منه.
هذه التركيبة المعقدة لمفهوم القطبية وبنية النظام الدولي تدفع الدول الكبرى إلى محاولة تعديلها بأي وسيلة كانت، والذي يعتبر بالنسبة للحكومة الأمريكية خطاً أحمراً لايمكن السماح لأحد بالمساس به، وكل قوة كبرى تسعى في مسار التعديل أو التأثير على هذه البنية تعتبر على الفور خصماً استراتيجياً للحكومة الأمريكية، ويتم عزله عن العالم الأمريكي وتقييد وصولها إلى البنية التحتية للنظام الدولي، الأمر الذي تعيه كل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، لتبدأ كل قوة من هذه القوى مسيرها الخاص، فالصين على سبيل المثال آثرت الإبقاء على البنية التحتية الواحدة للنظام الدولي مقابل نقل الثقل التدريجي لهذه البنية من واشنطن إلى بكين، لتصبح الصين سيد الاقتصاد المعولم والمستفيد الأساسي من مزاياه، على خلاف روسيا التي تسعى لأن تخلق هيكلا موازيا للبنية الحالية كخيار الضرورة بسبب العقوبات الأمريكية التي تتوالى على موسكو، والتي ستصل أولاً وأخيراً إلى مرحلة تقييد موسكو بشكل كامل من الوصول إلى البنية التحتية الحالية.
وتستغل موسكو العامل الجغرافي في التنظير الجيوبولتيكي الذي يمكن أن يحول موقع القارة الأمريكية مع التطور العسكري الروسي إلى عائق أمام واشنطن ونفوذها في قارات العالم القديم، في خطوة روسية لعزل حقيقي للولايات المتحدة الأمريكية خلف المحيطات، ولكن مايحمي مكانة الدولة الأمريكية من خطر الخصوم ومخططاتهم يكمن في التحالف الأوروبي الأمريكي الوثيق، حيث الناتو الذي يحيّد عامل الجغرافيا، ونظام التحويلات المالية العالمية في أوروبا swift الذي يعتبر إحدى حلقات الوصل بين البنية التحتية للنظام الدولي وبنيته الفوقية التي يشكل فيها النسق الدولي والمنظمات الدولية كل شيء تقريباً.
هذا الارتباط الأمريكي الأوروبي الوثيق أولاً، وتناقض المشروع الروسي والصيني من حيث الجوهر والآليات والوسائل ثانياً، هي ضمانات واشنطن الأساسية لحماية النظام الدولي من أي تأثير أو تعديل، حيث تتحكم واشنطن بكلا العاملين بشكل محكم، فالمشروع الصيني يمكن ضربه باتباع نصيحة كسينجر بتحالف بين واشنطن وموسكو ضد بكين، وبفرض رسوم عالية على الصين تعيق نموها الاقتصادي، بحيث يعيق بدوره توظيف هذا النمو لخدمة مشاريعها التنموية الاستراتيجية كخط الحرير، والمشروع الروسي يمكن دفنه بتحريك المخاوف الأوروبية من قدرات موسكو ونواياها الجيوبولتيكية، بالتالي فإن الاتحاد الأوروبي هو فعلياً صمام أمان النظام الدولي الحالي ببنيتيه الفوقية والتحتية، وهو الضامن الأساسي لاستمرار تربع واشنطن على رأس هذا النظام كون الأمن القومي لكل من أوروبا وأمريكا ذو تعريف مشترك، ومحددات واحدة.
إلا أن أعضاء الاتحاد الأوروبي ليسوا جميعاً على وفاق تام حول هذا التعريف، فألمانيا التي تسعى لضمان أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي عن طريق خط السيل الشمالي 1-2، تعرضت لضغوطات أمريكية مفرطة للتخلي عن هذا المشروع، تحت ستار ذات الذرائع الأمريكية من تضخيم وتهويل في النوايا الجيوبولتيكية الروسية، ما جعل الأمن القومي الأوروبي يتعارض ولو بشكل جزئي مع الأمن القومي الأمريكي للمرة الأولى، ليتطور هذا التعارض فيما بعد إلى تعارض في المصالح من خلال فرض الرسوم الأمريكية على أوروبا، وضرب المصالح الاقتصادية لدول أوروبا في إيران، بالانسحاب الأحادي من الاتفاق.
هذه الصدمات على مستوى الأمن والمصلحة أيقظت وعياً أوروبياً بضرورة إعادة تعريف الأمن القومي للاتحاد الأوروبي، ما يعني إنتاج وسائل جديدة غير الناتو لضمانها، ليكون إحياء مبادرة خافيير سولانا حول الجيش الأوروبي الموحد هو الحل الأكثر ملاءمة، كجيش موازي للناتو، ومجرد تغيّر مفهوم الأمن القومي الأوروبي، يعني تغيّر مفهوم المصلحة القومية، ما يتيح لقادة أوروبا رؤية روسيا من منظور آخر، غير المنظور الأمريكي التقليدي حول العداء الدائم، وهو يعيد بدوره التنظير الجيوبولتيكي القديم حول التحالف الأوروبي الروسي ومنافعه.
هذه المتغيرات دائماً ماكانت مبنية بالعقل السياسي الألماني، إلا أن العائق دائماً كان العقل السياسي الفرنسي، والذي قفز به ماكرون فوق المخاوف التقليدية، وشجع مبادرة الجيش الأوروبي الموحد، والتعاون مع روسيا، ولم تفلح كل المحاولات الأمريكية في توتير القارة بالرغم من تمادي أمريكا وانسحابها من معاهدة الحد من الأسلحة قصيرة والمتوسطة المدى مع روسيا، والذي تلاه افتعال الأزمة بين أوكرانيا وروسيا.
وقد ذهب ماكرون إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث شرع بالعمل مع زملائه الأوروبيين وبالتعاون مع روسيا لبناء نظام جديد للتحويلات المالية البنكية في خطوة لكسر احتكار نظام سويفت swiftالدولي، وبالتالي إفقاد عقوبات واشنطن مفاعيلها، ما يؤدي بدوره إلى تعزيز الهيكل الروسي الموازي للنظام الدولي الحالي، ويجعل من الاتحاد الأوروبي ببنكه المركزي ونظام تحويلاته الدولي الجديد، كتلة جديدة تحاول الانشقاق عن الكتلة الواحدة في البنية التحتية للنظام الدولي.
هذا الانشقاق يشكل ضربة بالعمق للأحادية القطبية، وقد وضع واشنطن على أهبة الاستعداد للتضحية بكل شيء على الإطلاق، حتى بالديمقراطية والسلام الديمقراطي والشعارات الليبرالية الرنانة التي تتغنى بها أمريكا منذ عقود، فبدأت بإشعال الثورات الملونة في أوروبا للإطاحة بكل مايمكن إطاحته مستعينة باليمين المتطرف في كل من ألمانيا وفرنسا وباقي الدول الأوروبية.
وبعد فشل المخطط في ألمانيا والذي تورط فيه ضباط وعسكريون سابقون في الجيش الألماني في إطلاق الحراك العسكري ضد الدولة ومسؤولين وسياسيين ألمان فيما يعرف باليوم «X» بقناعة مسبقة بقرب انهيار الدولة الألمانية، اتجهت واشنطن على يد «ستيف بانون» المستشار الاستراتيجي السابق للبيت الأبيض إلى شحن الشارع الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص، وتهيئته للانفجار السريع تحت تأثير أي شرارة أو قرار حكومي، وهو ما حصل فعلاً بعد قرار الحكومة الفرنسية زيادة سعر المحروقات بسنتات قليلة لاتتجاوز 2.9 سنت للتر البنزين على سبيل المثال.
ما يحصل اليوم في أوروبا أقرب مايكون إلى إنذار عملي شديد اللهجة (إنذاراً للتوقف وباللون الأصفر) وهو بالمنظار الاستراتيجي أمر طبيعي ومتوقع، تماماً كالمثال الجيوليوجي الذي طرحناه سابقاً، وبالتأكيد لن يكون الاهتزاز الوحيد في حال استمرت أوروبا بمسارها الحالي، خاصة مع إطلاق اليمين المتطرف لدعوات تتعلق بحماية الهوية الأوروبية من الهجرة والإسلام، والتي من الممكن العمل لتحويلها إلى اشتباك أهلي مسلح في الداخل الأوروبي، ولكن ما يحدد القادم على أوروبا هو أسلوب تعامل قادته الحاليين والخطة الموضوعة في مواجهة هذه الاحتمالات، فإما أن يكون اللون التالي هو الأخضر، أو سيكون حتماً الأحمر القاتم.
منبر: السترات الصفراء، اهتزازات ماقبل القطبية الجديدة!
- بقلم المغرب
- 12:30 04/12/2018
- 650 عدد المشاهدات
صلاح النشواتي
الباحث في الاستراتيجيات الدولية