دونالد ترامب مرورا بالقادة الأوروبيين وزعماء الدول العشرين المصنعة وبالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت أجندا الرئيس حافلة باللقاءات التي اغتنمها لنحت التوجهات الإستراتيجية الجديدة لفرنسا.
بعد قبوله في قصر الإيليزي للرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم 5 جويلية الجاري، استقبل ماكرون رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو يوم 16 جويلية للمشاركة في الاحتفاء بذكرى ترحيل 13 ألف يهودي فرنسي في «مدرج الشتاء» (فال ديف) من قبل السلطات الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية و نقلهم إلى معتقلات الإبادة في ألمانيا. وكان نتانياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يشارك في هذا الاحتفاء. وشكل ذلك عربونا للتقارب بين الزعيمين و الدولتين بعد أن استنكرت «إسرائيل» رسميا قيام باريس في عهد فرنسوا هولاند بتنظيم «مؤتمر دولي»حول النزاع الفلسطيني الإسرائيلي... في غياب الدولتين المعنيتين بالنزاع.
السلام عبر حل الدولتين
لكن الرئيس ماكرون الذي شدد على العلاقات المتميزة بين فرنسا و إسرائيل أكد تعلق بلاده و تعلقه الشخصي بحل الدولتين و رفضه للاستيطان. وقال ذلك للزعيم الفلسطيني و رئيس الوزراء الإسرائيلي. في المقابل اعتبر، خلافا لما قالته مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، بأن الدولة الفرنسية بريئة من ترحيل اليهود، أن الحكومة الفرنسية و قوات الأمن هي المسؤولة الوحيدة على ذلك وأن الجيش الألماني لم يشارك في العملية . وهو الموقف نفسه الذي اتخذه الرئيس الأسبق جاك شيراك.
وعبر الرئيس الفرنسي اثر محادثاته مع نتانياهو في بلاغ مشترك أن «فرنسا حريصة على دعم كل الجهود الدبلوماسية» الرامية إلى بسط السلام لتمكين إسرائيل وفلسطين، «حسب معايير السلام المعترف بها لدى المنتظم الأممي»، من «العيش جنبا إلى جنب في حدود أمنة ومعترف بها، و القدس كعاصمة». و انتبه الملاحظون إلى تبني ماكرون فكرة أن تكون القدس عاصمة للدولتين في ظروف يحاول فيها نواب «الكنيست الإسرائيلي» فرض عقبات جديدة حول البت في وضع القدس النهائي بتمكين النواب قانونا بالمصادقة على ذلك بأغلبية الثلثين وهو ما يستحيل التوصل إليه في ظل النظام السياسي الحالي . وأكد ماكرون على أنه «لا بد للجميع احترام القانون الدولي» مضيفا «أقصد هنا مواصلة البناءات في المستوطنات» . ولم يرد نتانياهو، (المستفيد الوحيد من الزيارة وهو يعاني من تحقيقات قضائية مفتوحة ضده لشبهة فساد مع بعض المسؤولين الإسرائيليين المقربين له)، على ما قاله ماكرون. بل ركز هجومه على الإسلام الراديكالي معتبرا إياه الخطر الأهم الذي يحدق بإسرائيل و بالعالم الغربي و الذي وجبت محاربته.
انحياز واضح لـ«الصهيونية»
موقف ماكرون الذي عبر عنه أمام نتانياهو، وفي حضور الجالية اليهودية الفرنسية وبعض مسؤولي اللوبي الصهيوني في فرنسا بمناسبة الاحتفاء بذكرى «فال ديف»، يعتبر منعرجا في السياسة الفرنسية و انخراطا في مقالات اللوبي الصهيوني. فقد ندد الرئيس ماكرون ب»معاداة الصهيونية» معتبرا ذلك الموقف «صيغة مجددة من اللاسامية» . و قوبل تصريحه بالتصفيق الحاد من قبل الحاضرين الذين ابتهجوا بتغيير الموقف الفرنسي في أعلى الهرم .و إن لم يكن يهدف ذلك الى ترضية الجميع فهو يعزز موقف المتطرفين في الساحة السياسية الإسرائيلية التي تريد منع أي انتقاد لسياساتها و تحرص على نعت أي تجريح في انتهاكاتها لحقوق الإنسان والقوانين الدولية باللاسامية. وهو أمر مجرم في فرنسا. المعادلة، من قبل الرئيس ماكرون، بين انتقاد اليهود وانتقاد الصهيونية، التي هي مشروع استعمار استيطاني، تفتح الباب إلى منع معارضي «إسرائيل» من التحرك والتعبير عن آرائهم. وهي خطوة جديدة في سجل السياسة الدولية الفرنسية.
وفي العموم، رجع نتانياهو إلى إسرائيل» محملا بعبارات الود و الصداقة و لم ينطق لسانه ولو بكلمة واحدة يمكن أن يستشف المرء منها انفتاحا على فكرة أن تقبل «إسرائيل» الخوض في مناقشة مبدأ استئناف المفاوضات. ذلك ما يجعلنا نشعر أن الهدف من استضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن سوى تثبيت مساحة التحرك الدبلوماسي الفرنسي في المسألة الجوهرية في الشرق الأوسط. بعد رفض ماكرون الاعتراف بدولة فلسطين بطريقة أحادية حسب ما صرح به خلال حملته الإنتخابية، نراه ينحاز للموقف الإسرائيلي المتطرف . وذلك لن ينفع الفلسطينيين لأن بنيامين نتانياهو «لا يتراجع إلا تحت القوة» كما صرح بذلك المؤرخ الإسرائيلي زيف ستارنهال في منبر حر لجريدة لوموند على خلفية زيارة نتانياهو لباريس.