لو صحّت (نشدد على: «لو صحّت») هذه الرواية سنكون أمام فضيحة دولة بكل المقاييس إذ لا يُعقل ولا يُفهم أن تعمد السلطة التنفيذية إلى الضغط على أية وسيلة إعلامية لمنع نشر حوار مع شخصية سياسية أيّا كان حجمها ووزنها في البلاد... وإن صحّت رواية قناة التاسعة فسيكون ذلك انحرافا خطيرا في المسار السياسي لتونس...
لقد وضعنا، كما لاحظتم، معقفات عديدة وعمدنا إلى التأسيس على افتراض صحة المعطى الأول، وهو ممارسة ضغوط قوية من أجل منع بث حوار مسجل، لأننا لسنا متأكدين، إلى حد كتابة هذه الأسطر، من الرواية الصحيحة للأحداث... والتثبّت ضروري قبل إطلاق أحكام بمثل هذه الخطورة...
الثابت الوحيد في هذه القضية هو تسجيل قناة التاسعة حوارا مع رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي يوم السبت 3 سبتمبر الجاري على أساس بثه يوم الثلاثاء 6 سبتمبر ثم اعتذرت عن البث بمناسبة حلول عيد الإضحى ثم وعدت ببث الحوار مساء يوم الثلاثاء 13 سبتمبر ولكن الحوار لم يتم بثه واعتذرت القناة لصاحب الحوار متعللة بممارسة ضغوط قوية تهدد وجودها من قبل مسؤولين في رئاسة الجمهورية وكذلك رئاسة الحكومة ويُفهم من هذا الكلام تهديد القناة بمراجعة جبائية معمقة أو غير ذلك من الإجراءات التي يمكن أن تتكلف غاليا على القناة...
وتسارعت الأحداث يوم أمس بين بيانات ومواقف متضاربة ومتناقضة ووجدنا أنفسنا وسط قضية إعلامية سياسية لا ندري هل أنها ترتقي فعلا لفضيحة دولة أم أنها مجرد زوبعة في فنجان لا ندري من هو شاربه أو قارئه...
وبعد إعلان الرئيس السابق والمقربين منه تعرضه لهذه الصنصرة تسارعت وتيرة الأحداث وتلاحقت البيانات والتصريحات.. وجاء بيان نقابة الصحفيين ليستنكر بشدة كل اعتداء على حرية الصحافة ولكن جاء فيه كذلك « كما تهيب نقابة الصحفيين بالمؤسسات الإعلامية عدم التلاعب بمصداقية الإعلام وبنبل رسالته تعزيزا لثقة الجمهور خاصة وقد سبق لمدير قناة التاسعة أن أعلم عن حيازته لمعلومات خطيرة حول حقيقة الاغتيالات السياسية وتعرضه إلى تهديدات قال أنه سيكشف عنها، قبل أن يتراجع عن ذلك الأمر .»
وبنفس المعاني جاء كذلك بيان النقابة العامة للإعلام.
وهذا هو قدم أخيل في كل هذه القصة... هل يمكن أن نصدّق اليوم المدير العام لقناة التاسعة معز بن غربية عندما يقول بأن قناته قد تعرضت إلى ضغوط من «قبل مسؤولين في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة» أم أننا أمام حلقة ثانية من «الأسرار الخطيرة» التي لو كشفت لأقامت الدنيا ولم تقعدها؟!
وللسؤال وجاهة معقولة خاصة عندما نقرأ بتمعن البيان الصحفي الذي أصدره المدير العام لقناة التاسعة فهو إذ يؤكد تعرض القناة لهذه الضغوطات من «قبل مسؤولين في رئاسة الجمهورية» ولكن وفي نفس الجملة يدعو البيان «رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة إلى توضيح علمهما بهذه الضغوطات».. ألم يكن من الأحرى التثبت من ذلك قبل إطلاق هذه «القنبلة»؟! ولكن أغرب ما في هذا البيان هو تأكيد إدارة القناة أن «الحوار مع الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي سيقع بثّه كاملا بمثل ما كان مبرمجا في السابق» إذن هل انتفت الضغوطات «فجأة» أم أن إدارة القناة قد قدّرت أن في هذه الإثارة المسبقة حماية لاحقة لها من ضغوطات قد تمسها في قادم الأسابيع أو الأشهر؟!
لسنا ندري هل سنكون أمام قضية أخرى تشد الرأي العام فترة ثم تتوارى دون أن نعلم علم اليقين حقيقة الأحداث أم أن الهيئات الرقابية (الهايكا) والدستورية (مجلس نواب الشعب) والقضائية (إن وصل الأمر إلى القضاء) ستكون، هذه المرة، قادرة على البتّ في أصل الرواية وتحميل كل فرد مسؤولية تهديداته، إن وجدت، وأقواله، إن لم تصحّ..
ولكن ربّ ضارة نافعة.. لا شك أن هنالك بعض المحظورات في إعلامنا اليوم.. ولكن هذه المحظورات لا تتعلق البتة بالسياسة والسياسيين بل تتعلق بمسائل معقدة يصعب حولها الحوار الجدي الرصين وهي مرتبطة كلها بالموروثات الدينية والاجتماعية والثقافية ولا علاقة لها البتة بحياتنا العامة اليوم...
ولا شك كذلك أن رجالات السلطة، في كل بقاع العالم، تحدثهم أنفسهم بين....