كما في كل حرب، اختيارات استراتيجية وأخلاقية لا بد من ضبطها حتى لا نخطئ الهدف... ومن بين هذه الاختيارات تحديد العدو بدقة حتى لا نخوض المعركة الخطأ ضد العدو الخطأ...
العدو تونسيا وعربيا ودوليا هو الإرهاب السلفي الجهادي المعولم والذي يحتل تنظيما «داعش» و»القاعدة» الإرهابيان صدارته.. وكل سعي لتحديد مغاير لهذه الدقة والحصرية إنما هو في أحسن الأحوال تشتيت للجهود لا يمكن أن يستفيد منه إلا العدو لأن كل تحديد فضفاض وأعمّ إنما هو من أصناف المساواة بين العدو ومن سواه حتى وإن كان خصما عنيدا لنا أو لحلفائنا..
من هنا نرى في هذه الحرب أن مجرد وصف حزب الله اللبناني بالإرهابي – رغم الاعتراضات الكبيرة التي يمكن أن تكون لنا على أدائه في مواضع معينة - إنما هو خدمة للتنظيمات الإرهابية السلفية الجهادية المعولمة وإن كنّا اندهشنا لموقف تونس عند صدور بيان مجلس وزراء الداخلية العرب والذي يصم حزب الله بالإرهاب فإن دهشتنا وحيرتنا لتكبران بتكرار نفس الموقف الباهت الإمَّعِي التابع الذي كان لديبلوماسيتنا في القاهرة.. فكيف لنا بعد ملحمة بن قردان أن نعيد نفس الموقف الخاطئ في القاهرة بعد تونس؟! كيف لنا أن نقبل بمسايرة استراتيجيات عربية لا تخدم حقيقة الحرب على الإرهاب؟
وشبيه بهذا ما تقدم عليه، إلى اليوم، بعض «الأطراف» في تونس والتي مازالت تريد أن ترى «أياد خفية» في الإرهاب مرتبطة بـــ»مخابرات» عربية أو أجنبية.. أو فلول «الدولة العميقة» ونحن نضع على نفس المستوى من يرى في حركة النهضة حركة إرهابية لأن موقفا كهذا يدفع إلى حرب أهلية ولا يُعين البتة في محاربة الإرهاب.. هذا لا يعني أن حركة النهضة لا تتحمل مسؤوليته سياسية وأخلاقية رئيسية في استفحال الإرهاب ببلادنا ولا يعني كذلك أن سياسة حكومتي النهضة لم تكن كارثية في تقديرها للخطر التكفيري الإرهابي.. وأن هذه الحركة مدعوة، لو كانت جادة وصادقة، إلى تقديم نقد ذاتي حقيقي حول هذا الجانب في سياستها عندما كانت ماسكة بتلابيب الدولة.. ولكن هذا شيء ووضعها في خانة الإرهاب شيء آخر مختلف تماما ولنقلها بوضوح مضر بالوحدة الوطنية وبضرورة حشد كل الطاقات والقوى في حربنا ضد الإرهاب..
تحديد العدو بوضوح وبصفة حصرية لا بهذا التوسع المخلّ بالهدف عربيا أو تونسيا هو ضمان لحشد الجهد ولاقتصاد الوقت ولإنهاء هذه الحرب بأقل الأضرار البشرية والمادية..
وفي المقابل هنالك بوصلة أخلاقية لا ينبغي أن نفقدها ونحن نخوض غمار هذه الحرب.. في الحرب لا بد من عزم وتصميم على اقتلاع جذور هذه الآفة من بلادنا.. ولكن نحن نقوم بهذه الحرب انطلاقا من مبادئنا وقيمنا لا من قيم الدواعش أو الحالمين بعودة منظومة الاستبداد...
فحربنا ضد الإرهاب مصيرية لأنها أولا وقبل كل شيء حرب وجود وحرب قيم.. قيم الحياة ضد قيم الموت والديمقراطية ضد هذا الصنف من النازية التكفيرية.. حرب نراعي فيها الحرمة الجسدية وحقوق الإنسان والمحاكمة العادلة وننأى بها عن كل ما يشوبها من ممارسة التعذيب أو التنكيل أو التضييق على الحريات الفردية والعامة ولا نلجأ فيها مطلقا إلى العقاب الجماعي أو الأخذ بالظنة.. ولو فقدنا قيمنا في هذه الحرب لتساوينا أخلاقيا مع من نحارب... فنحن نحتاج إلى العزيمة والقوة والإصرار والبطولة والوطنية والفداء في هذه الحرب.. أما الانتقام والتشفي والتنكيل فذاك ما لا نرضاه لبلادنا ولديمقراطيتنا الوليدة.. فنحن الذين نختار الميدان القيمي لهذه الحرب لا أعداؤنا الدمويون.. نحن نتفهم حالة الغضب والحنق والألم التي تلمّ بمواطنينا وهم يشاهدون فظاعة جماعات الإرهاب والدم ولكن من واجب كل نخب بلادنا وكل مواطنينا أن نكضم الغيظ وأن نحارب ونقاتل وفق مبادئنا وقيمنا.. وهذا لعمري تدريب صعب في هذه الظروف بالذات ولكن تلك هي الطريق الوحيدة السالكة..
هذه في رأينا بعض الاختيارات الاستراتيجية والأخلاقية لتونس نذكّر بها حتى لا نفقد جميعا البوصلة.