الاستفتاء على أوروبا: إنجلترا تختار التعويل على مكتسبات «بريطانيا العظمى»

مولدي الأحمر

يتفق الجميع تقريبا على أن الحدث التاريخي الأبرز الآن في أوربا هو خروج إنجلترا من الاتحاد الأوربي. ومن المؤكد أن الأقلام ستسيل طويلا في تفسير هذا الخيار، وستُستدعى كل النظريات لتفسير الظاهرة: من نظريات الحملات الانتخابية وألاعيبها، إلى المقاربات السياسية

المتعلقة بالصراع الداخلي بين المحافظين وخصومهم، إلى النظريات الاقتصادية وصولا إلى النظريات الاجتماعية والثقافية. ومن المؤكد أيضا أن تفسير الظاهرة يكمن في الخلطة العجيبة بين كل هذه المتغيرات، وربما الأحسن استدعاء غرامشي على عجل ليسطر لنا بالبنط العريض سر الهيمنة الإيديولوجية لليمين البريطاني العريق. لكن هل هناك لبلدان المستعمرات القديمة قراءة خاصة لهذا الحدث؟ هل لهذا الخيار علاقة بموقعها في المعركة بين أوربا المشروع وبريطانيا التاريخ والمستقبل؟

 

في كل أنحاء العالم الاستعماري القديم (ولكن كذلك البلدان الصناعية الجديدة) تستعد الأمم إلى المرور تكنولوجيا وصناعيا ومعماريا واجتماعيا –وسط ارتباك معياري لا تخطأها العين- إلى عصر جديد تزداد فيه مفاهيم العيش الكريم تفصيلا وتدقيقا،وشروط تحقيق ذلك انتقائية وربما انغلاقا بوجهه الآخر، ما قد يستدعي– مرحليا على الأقل- إيديولوجيات استعمارية وعنصرية قديمة هي في طور الصعود من جديد هنا وهناك. والرهان الحقيقي لهذا المنعطف التاريخي المصيري هو كيف يمكن خوض غمار هذه النقلة بأكثر ما يمكن من حظوظ النجاح، دون خسارة ميزة الريادة الثقافية المتأصلة في مشروع النهضة الصناعية الأولى، التي انطلقت منذ قرون وأنتجت الإمبراطوريات الأوربية التي تنافست على الهيمنة على الشعوب الضعيفة، وبنت مجدها وبهرجها ورغدها على حسابها؟
المثال الأبرز على دراما هذه النقلة التاريخية –وهي غير سهلة ومحفوفة بالمصاعب الاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية – يتجسد في حالة إنجلترا.

لقد نشأ المشروع الأوربي في منتصف القرن الماضي من أجل المنافسة الاقتصادية التي كان يُؤمل من النجاح فيها استعادة المجد السياسي للقارة العجوزبعدما خسرت مستعمراتها بمساعدة المنافس الأكبر لها الولايات المتحدة الأمريكية. إنه مشروع يراكم المكاسب الاقتصادية ولكنه لا يراكم المكاسب السياسية بنفس الدرجة،لأن هذه الأخيرة لا تتبلور عمليا إلا في علاقة وطيدة مع الخصوصيات الحضارية لكل بلد على حده،بما في ذلك شكل الحكم وما يتعلق به من رموز وطنية محلية لا يفرط فيها الحكام ويستعرضونها في بهرج بالغ كل سنة (عيد ميلاد الملكة في بريطانيا...). ومن زاوية النظر هذه تتأرجح فرنسا مثلا، الأمة السياسية بامتياز، بين النموذج الألماني حيث الأمة ثقافية- اقتصادية باستحقاق ولكن دون إرث استعماري، وبريطانيا الأمة الثقافية-الاقتصادية الاستعمارية النموذجية. إن ما ترتب على ذلك هو أن الاتحاد الأوربي كان ربما يراكم المكاسب الاقتصادية ولكنه لم يكن يراكم بنفس الوتيرة المكاسب السياسية، بل أخطر من ذلك،فهو إن راكمها لا يوزعها “بالعدل” على الأعضاء. ولذلك فإن الخصومة الكبيرة غير المعلنة في الاتحاد الأوربي

جرت في الواقع بين فرنسا وبريطانيا، لأن كلا منهما كان يتساءل كيف يمكن تحويل المكاسب الاقتصادية الأوروبية إلى مكاسب سياسية وطنية عبر فرض نفسه على الاتحاد كممثل فعلي له لدى المستعمرات القديمة واحتكار ذلك الدور والاستفادة منه.

في هذا السياق وخلال كل العقود الماضية، كانت اليابان تعمل دوما تحت العباءة الأمريكية ومكبلة بحجمها الديمغرافي، ولذلك فهي لم تهدد يوما المستعمرات الأوروبية القديمة ولم تضع قط موضع سؤال المعادلة الأوربية المختلة والمتعلقة بمراكمة وتوزيع المكاسب الاقتصادية والسياسية. لكن حينما حلت ساعة العصر الجديد، ساعة النقلة الحضارية والتكنولوجية الفارقة،حلت معها أيضا ساعة الصين الجديدة بحجمها الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي العملاق، وتحت سطح الجليد حجمها السياسي المرتقب. وهذه القوة الجديدة لها عيون على المستعمرات الأوروبية القديمة. هنا برز في أوربا سؤال قديم جديد: كيف ستجري إعادة اقتسام الهيمنة على عالم المستعمرات القديمة؟ ليس بعد تحقيق هذه النقلة الحضارية-التي مازالت ملامحها ضبابية- إنما قبلها وخلالها، لأن من شروط هذه النقلة الاستفادة بطرق جديدة من المستعمرات القديمة: انتقائية الهجرة بحسب متطلبات كل حالة داخلية على حده (ألمانيا استحوذت على عشرات الآلاف من السوريين دفعة واحدة وتحت جنح ظلام الهروب من الحرب)، جلب الأدمغة والمهارات بأثمان رخيصة (يقدر الخبراء أن تكوين طبيب في بريطانيا يساوي 10 أضعاف تكوينه في الهند)، السهر على إنتاج نخب سياسية موالية في هذه البلدان، العمل على ربط نمط العيش النموذجي في مجتمعاتها بنمط عيش النخب العليا في مراكز الإمبراطوريات القديمة ( لقد قال لويس ماسينيون في ثلاثينيات القرن الماضي أن الصناعات التقليدية المغاربية انهارت وفقدت كل قيمتها ورمزيتها عندما عوضت النخب المغاربية العليا أثاث منازلها بالأثاث الأوروبي).

في أوربا الجواب المتناسق والوحيد على هذا السؤال كان الجواب الألماني: ألمانيا أمة ثقافية-اقتصادية متجانسة وقوية، ليس لها إرث استعماري يربط تفاصيل اقتصادها بالاقتصاديات الهشة والفوضوية للعالم الثالث القديم، وهي تتعامل أساسا مع الاقتصاديات القوية، وهي أيضا غير متورطة بكثافة في جعجعة إيديولوجيا حماية وتحضير المجتمعات البدائية التي ذهب إليها غيرها لنهب خيراتها بذريعة نشر الحضارة. ولذلك فهي راسخة في الاتحاد الأوربي وحتى إن انهار فهي باقية. الجواب الفرنسي في غاية الارتباك: فرنسا أمة سياسية وفقا لمفهومها التاريخي للسياسة والمواطنة،وتسعى أيضا إلى أن تصبح أوروبا أمة سياسية، ويزعجها جدا أن تظل كل من ألمانيا وبريطانيا أمتين اقتصاديتين- ثقافيتين في أوروبا التي تريدها سياسية، ولذلك فهي تقاومهما بالاستماتة في التشبث بإرثها الثقافي في مستعمراتها القديمة وتحتكر التعامل معها، وتعتبر نفسها بمثابة الأمين الأوروبي على هذه الحديقة الخلفية، وهي تجري هنا وهناك في المتوسط وإفريقيا وتتنازل عن «حقوق إنسانها» في الشرق الأوسط لتأخذ من أمريكا بعضا من نصيب صفقات بيع السلاح.ومن ثم فهي تهترئ حضاريا كل يوم.

أما الجواب البريطاني ورمزه العرش الأسطوري فهو: بريطانيا أمة ثقافية أساسها تقليد ملكي عريق مشدود بإرث طبقة النبلاء، استوعب باستمرار متطلبات الحداثة، بل كان هو أحد مخترعيها. لكن الاتحاد الأوروبي يعطّلها حاليا على تحويل المكاسب الاقتصادية إلى مكاسب تصب في مصلحة هذا الإرث لأن هذا الأخير يعرف أنها هي وحدها من يستفيد منه (مقارنة بفرنسا الممزقة بين مشروعها الكوني وخصوصيتها التاريخية). وهكذا أصبحت بريطانيا تتساءل على لسان المهيمنين فيها على الساحة السياسية والاقتصادية الداخلية: ما الذي سيحدثه تخطي منعرج العصر الجديد، حيث سيتغير العالم المتقدم تكنولوجيا وحياتيا ومجتمعيا، على الإرث الحضاري والسياسي البريطاني في سياق المشروع الأوروبي الذي تختل فيه معادلة توزيع المكاسب الاقتصادية مقارنة بالمكاسب الحضارية الخاصة بكل

بلد؟ وهل يمكن تخطي هذا المنعرج بالتخلي عن هذا الإرث الإمبراطوري العريق؟ هل سيذوي بهرج المحافل السياسية والثقافية للموالين للعرش البريطاني وزوارها المبجلين من الهند وإفريقيا والمحيط الهادي خلال حجهم كل عام إلى لندن، لتستقبلهم بروكسال بشكل بيروقراطي لا يمت لعصر بريطانيا الذهبي بشيء؟ وإذا ارتبكت أوروبا في إنجاز هذه النقلة الحضارية – كما هو ظاهر للعيان - بسبب ضبابية المشروع والمنافسة والأزمات وفقدان السيطرة على الأحداث العالمية، فهل سيذهب ذلك بمجد بريطانيا ومكاسبها المعنوية التي تستفيد منها ويزيد من انكماشها وبالتالي من إضعافها في عصر المنافسات الكبرى؟ ولكن أيضا هل أن قدر بريطانيا في مواجهة هذا التحدي هو أن تخوضه محتمية بأوروبا ؟ ألا يمكن «للأسد» أن يحافظ على عرينه الملكي الإمبراطوري ويخوض غمار هذا المنعطف التاريخي بما جمع تحت يده من إرث وثراء وعلاقات متينةمع مستعمراته القديمة....وأمريكا؟

قبل الاستفتاء بأسابيع أجابت الملكة على هذا السؤال كعادتها بعرض سطوة العرش الرمزية لمن يرى ويسمع في الكومونولث وفي أوربا، وأظهرت في حضور وريث العرش ووريثه شباب هو قوته المستقبلية مقابل شيخوختها، واليوم تبعها البريطانيون – ولكن بقلق كبير وعدم يقين من نتائج هذه الخطوة التاريخية الثقيلة- يقودهم اليمين التاريخي التقليدي، رغم معارضة رئيس وزرائهم اللبرالي الشاب الشاخص بارتباك إلى أوربا.

بريطانيا اختارت نهجها وبقي علينا نحن المغاربة أن نشاهد ونحلل ونستوعب الدرس من التجربة الأوربية، وخاصة أن نتبين موقعنا منها بوضوح. ومن الآن يمكننا أن نرفع في وجهها فيتو قويا جدا: تجانسنا الثقافي جبار، وتقديرنا بأن منعطفنا التاريخي هو منعطف الوحدة لا العودة فرادى إلى العلاقات القديمة...وعرابيها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115