البلطجة والعنف الممارسين في حادثتين منفصلتين. سحل مواطن من قبل قوات الامن واقتحام مقر اذاعة «شمس اف ام» من قبل اعوان بلدية الكرم.
عاشت تونس امس على وقع حادثتين منفصلتين. الاولى إقدام دورية امنية بمنطقة سيدي حسين على «سحل مواطن تونسي وتجربده من ثيابه» قبل اقتياده الى سيارة الأمن. والثاني كان اقتحام عدد من عمال وأعوان بلدية الكرم لمقر اذاعة «شمس اف ام» للاحتجاج على بث احد برامج الاذاعة شكوى من تردي الخدمات البلدية تقدم بها مواطن تونسي يقطن في منطقة الكرم.
حادثتان منفصلتان في الزمن والموقع وهوية الاطراف المعتدية ولكنهما يتقاطعان في نقاط عدة تكشف عن حجم الكارثة التي باتت فيها البلاد. ففي الحادثة الاولى اقدم اعوان امن على تجريد مواطن تونسي من ثيابه كليا والاعتداء عليه بالضرب قبل تكبيله واقتياده الى سيارة الامن.
حادثة وقع نقل تفاصيلها في تسجيل فيديو كشف الوقائع وفنّد مروية وزارة الداخلية التي اصدرت بيانا قالت فيه «ان مواطنا كان في حالة سكر مطبق. وعند توجه الدورية إليه للتحري معه تعمد التجرد من أدباشه في الطريق العام في حركة استفزازية لأعوان الامن».
لتضيف انه وبعد «استشارة النيابة العمومية، أذنت بالاحتفاظ به من أجل الاعتداء على الاخلاق الحميدة والتجاهر بما ينافي الحياء واتخاذ الاجراءات القانونية في شأنه» وفق نص البلاغ الذي تكرر مضمونه في تصريحات ممثلي النيابة العمومية او بلاغاتهم.
وهنا يتضح حجم الخراب، فما قدمته وزارة الداخلية والنيابة العمومية من تفاصيل عن الحادثة لا تكتفي فقط بالبحث عن «تبرير» سلوك اعوان الامن واعتدائهم الموثق على مواطن خرج ليحتج على وفاة احد شباب منطقته في مطاردة امنية. بل تقدم مروية الجهات الرسمية معطيات مغلوطة وسردية مشكوك فيها.
فشهود العيان وكذلك التسجيل المنشور نقلا بشكل كلي الاعتداء بالعنف من قبل اعوان الامن على مواطن جرد من كل ثيابه، وأظهرت عون امن يمسك بنطالا في يده ويركل شابا جرد من ثيابه. وهو ما يجعل مرودية وزارة الداخلية والنيابة العمومية محل شك.
سردية عوضا ان تقدم اعتذارا عن ما بدر من سلوك اعوان الامن وتعلن عن ايقاف اعوان الدورية وإحالتهم للتحقيق حملت المسؤولية للمواطن ولاحقته بتهمة الاعتداء على الاخلاق الحميدة والتجاهر بما ينافي الحياء. تهمة كان من الاولى ان توجه للدولة التونسية برمتها وبأجهزتها.
فالتجاهر بما ينافي الحياء هو ان تتجاهر اجهزة الدولة ببلطجتها وان تمارس العنف والترهيب على التونسيين. عنف لا يمكن ان تسوقه اجهزة الدولة على انه يندرج في خانة «العنف الشرعي» الذي تحتكره لتحمي وتنظم الفضاء العام وتحول دون ان يكون فضاء للصراع والعنف بين الافراد.
وما حدث من قبل اجهزة الدولة يضع هذا المفهوم محل شك ويجعل التونسيين غير امنين على انفسهم وحياتهم من اجهزة الدولة التي باتت تمارس العنف بعنجهية وتشف رهيبين دون موجب او اضطرار او في شكل محدود ومنظم بقوانين يقع تتبع من يتجاوزها خاصة اذا كان المتجاوز من الاجهزة التي كلفت بفرض النظام والأمن.
حادثة كانت لوحدها كافية لتجعل من يوم امس تاريخا مخزيا للبلاد التونسية ولكن تأبى مؤسسات الدولة وسلطها ذلك، لتضاف حادثة ثانية وهي اقتحام اعوان وعمال بلدية الكرم لمقر اذاعة «شمس اف ام» وترهيب العاملين والصحفيين فيها على خلفية بث الاذاعة في احدى حصصها شكوى لمواطن انتقد رئيس البلدية والخدمات المسداة.
شكوى وانتقاد كانا كافيين لتثور ثائرة رئيس البلدية وأنصاره ويقتحم اعوانه المقر مستخدمين معدات البلدية. الممولة من اموال دافعي ألضرائب لترهيب وتعنيف الصحفيين في الاذاعة. حادثة تكشف بدورها عن انتقال مؤسسات الدولة الى مرحلة البلطجة، اي الى ممارسة العنف على المواطنين لمجرد أنها تستطيع ذلك وتتمتع بحماية قانونية مزعومة.
ما اتاه اعوان بلدية الكرم وأعوان الامن يشتركان في الجوهر فقد مارسا البلطجة لترهيب الأخر. واجباره على الخضوع لسلطتهم وسطوتهم. مستغلين في ذلك استمرار حالة الافلات من العقاب التي قوبلت بها ممارسات العنف السابقة.
عنف صمتت عنه الدولة ولم تتصد له، بل حمت ممارسيه ووفرت لهم غطاء قانونيا. ظنا منها انها تحقق شيئا ما. فانتهى بها الأمر الى ان تفكك الدولة وتشيع في اجهزتها القطاعية والولاء القبلي والمهني وهو ما قاد الى ان تمارس العنف على من هم خارجها.
عنف يدينه اليوم السياسيون وهم الذين يتحملون جزءا كبيرا من استشرائه وتصمت عنه مرة اخرى مؤسسات الدولة السيادية لأنها لا تريد ان تكون في صدام مع مؤسسات وأجهزة تعتبرها ضرورية في اطار صراعاتها البينية.
ان استمرار الصمت وعدم ملاحقة المعتدين لن يفرز غير الذي عشناه أمس بلطجة برعاية مؤسسات رسمية، ستشاع وتتكرر لتجعل من التونسيين غير امنين على ارواحهم وممتلكاتهم وتجعل هذا البلاد سجنا كبيرا او غابة يقاتل بعضنا البعض الى ان نفنى.