للعلاقة التي يجب ان تكون بين «الحاكم» والشعب، وهي علاقة تقوم على قاعدة « ما يريده الجمهور» والتي يطبقها الان في ادارة الدبلوماسية التونسية.
يوم الخميس الفارط وفي خضم ادانة العملية الارهابية التي جدت بكاتدرائية نوتردام بنيس، اصدرت رئاسة الجمهورية التونسية «تهنئة» بمناسبة حلول ذكرى مولد الرسول لكافة التونسيين وذلك باسم الرئيس قيس سعيد الذي لم يفته التنصيص على انه «إذا كانت الأُمّة اليوم مستهدفة ممن دأبوا على استهدافها» فإنها – أي الامة- «تتعالى عن كل الاتهامات الكاذبة وتستلهم ردودها من السيرة العطرة لرسول» كما انها – الامة - «لا تقبل في المقابل أبدا أن يستهدفها أحد بسوء لأن الله بعثه رسولا للهدى ولإتمام مكارم الأخلاق».
بلاغ وان صدر اثر العملية الارهابية يوم الخميس الفارط إلا انه كتب سابقا لذا لا يمكن ان ينظر اليه بمعزل عن سابقه الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية التونسية يوم الاربعاء الفارط الذي ورد فيه ان تونس «إذ تعبر عن استيائها العميق من الحملة التي تقودها بعض الجهات باسم حرية التعبير والتي تستفز مشاعر ومقدسات المسلمين وتمس من الرسول» كما انها تعرب عن استنكارها ورفضها لهذه الممارسات التي من شأنها أن تغذي نزعة التطرف والإرهاب، فإنها تدعو«إلى النأي بالمقدسات عن الصراعات السياسية والإيديولوجية وتكريس قيم التسامح والحوار بين الشعوب».
بلاغان صادران عن الجهات المكلفة بإدارة الملف الدبلوماسي في فترات منفصلة يتعلقان بشكل او بأخر بالتطورات الامنية والسياسية بفرنسا على خلفية العملية الارهابية التي راح ضحيتها المدرس الفرنسي قبل ايام وعن اعلان الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون ان «الاسلام يعيش ازمة»، بلاغان يتجلى فيهما بوضوح انتقال الدبلوماسية التونسية الى مرحلة «حسب الطلب» او للدقة «ما يطلبه الجمهور».
فجزء من الشارع التونسي الذي تريد الرئاسة ان ترضيه ، يعتبر ان فرنسا وساستها تعاديان الاسلام والمسلمين وعليه فان تونس يجب ان تتبنى موقفا صريحا وواضحا من هذا العداء والاستهداف، ووجب على الدبلوماسية التونسية ان تتبنى هذا الغضب وتعبر عنه بطريقتها الخاصة.
طريقة تمثلت في تقديم نص «حمال اوجه» فتونس تدين ما تأتيه «جهات» لم تسمها، لرفع حرج التسمية، وتونس ترفض ان تقع الاساءة للدين وللرسول لأن ذلك يغذي الارهاب « وتونس ترفض خطاب الكراهية والإرهاب، موقف غير قابل للتصنيف او الوصف اذ هو بصيغته كاف ليكشف ما باتت عليه الدبلوماسية التونسية من ضعف وتخبط وغياب كلي لفهم الفرق بين منطلقات الفرد/المجموعة ومنطلقات الدولة.
إذن الموقف التونسي سواء الصادر قبل العملية الارهابية الاخرة او بعدها كاف لشرح ان السياسة الخارجية التونسية باتت تخضع لمزاج «الشارع» لا لمنطق الاشياء ولا للمواقف المبدئية. خضوع للمزاج عبر عنه مرة اخرى بلاغ الخارجية الصادر يوم الخميس الفارط لإدانة عملية نيس الارهابية ، والتي نفذها مواطن تونسي . ففي البلاغ لئن عبرت تونس عن ادانتها للعملية الارهابية وعن تضامنها مع الحكومة والشعب الفرنسي .... فإنها «تحذر من مغبة المضي قدما في التوظيف الأيديولوجي والسياسي للمقدسات والأديان وربطها بالإرهاب وتدعو إلى ضرورة إبعاد الدين عن هذه الآفة باعتبارها ظاهرة عابرة للأوطان لا دين لها او جنسا أو لونا».
بلاغ ثالث بحثت فيه تونس عن ادانة العملية الارهابية وأيضا عن الوفاء لنهجها في تقديم موقفا «حمالة لأوجه»، فهي تعرض موقفا يدين ولكن ينبه من توظيف ما حدث لوسم الاسلام بالارهاب او توظيف العملية الارهابية سياسيا، ولقارئ البلاغ ان ينتقى الفهم الذي يريد. فإذا اراد ان يفهم ان تونس تدين الارهاب وجد ذلك في النص، وإذا اراد ان يفهم ان تونس تدين الارهاب ولكن تحمل فرنسا مسؤولية ما حدث وجد ذلك، لكن من يبحث عن موقف واضح وصريح لن يجده.
48 ساعة اصدرت فيهما الرئاسة ووزارة الشؤون الخارجية ثلاثة بلاغات المشترك بينها انها تكشف عن ما باتت عليه عملية صناعة القرار وصياغة المواقف السياسية والدبلوماسية في البلاد، اذ هي الآن خاضعة للمزاج العام ولـ»تراند» وسائل التواصل الاجتماعي ، ولا تقوم على مقاربة لدولة «تعقلن» ادارتها لسياستها الخارجية وفق مبادئ وقيم ومصالح تدافع عنها بشجاعة.
فرئيس الجمهورية وهو يدين الاساءة للرسول، غاب عنه انه «قائد» الدولة وانه صانع لسياستها الخارجية و مؤثر في الشارع لا منصاع له بشكل كلي حتى اثناء غلبة «مزاجه» الشعبوي ودعوات الكراهية والتعصب والمظلومية ، فالرئيس يرى مثل الشارع ان ما يحدث هو مؤامرة وليست نتاج للازمة التي تعيشها «الامة» التي يتحدث باسمها رئيس جمهورية تونس.
لذلك لم تتحل الدبلوماسية التونسية بالشجاعة، فلا هي استجابت بشكل صريح ومباشر لهوى الشارع وغضبه ولا أدانت فرنسا بالاسم ورددت ان ما يحدث مؤامرة ولا هي دافعت عن القيم والحريات ورفضت تبرير خطاب الكراهية تحت أي ذريعة وتحررت من سطوة الشارع الذي تحركه العواطف والتي تسهل عملية التلاعب به.
دبلوماسية تخلت عن كل رصانتها التي راكمتها طيلة عقود وباتت تخضع لهوى الافراد والشارع لا لمصالح الدولة ومنطق الامور.