التي تُجمع في فنّ حكم المدينة وحسن التّدبير ورعاية مصالح النّاس وإصلاحهم. وحاول بعض العلماء النظر في صلة السياسة/السياسيّ بالدين والحكمة والأخلاق، والفضيلة والعلوم، والسعادة، والصلاح والإفساد في الأرض،... ثمّ سرعان ما اضفيت دلالات رمزية أخرى على الممارسة السياسية ذات وشائج بنظام من الثنائيات المتضادة كالخير /الشرّ والطهر/النجاسة، لاسيما بعد حركات تحرير الشعوب. فتشكّلت صورة المستعمر على أنّه نجس: دنّس الأرض وكان على الوطنيين تطهيرها بدمائهم النقية.
ومع مرور الزمن وتعدّد التجارب السياسية صار الحديث عن الاستراتيجيات التي يستعملها السياسي لمواجهة خصومه ومنها: استخدام سردية الطهر والنقاء لتلميع صورته في مقابل استعمال سلاح النجاسة لضرب المعارضة ولم تخرج «الإجراءات التطهيرية» التي اتّخذها أردوغان بعد «الانقلاب» عن هذا الإطار.
ولم يتوّقف الأمر عند ذلك الحدّ إذ تشير الأدبيات السياسية إلى تعامل السياسيّ اللاحق بالسياسي السابق وفق ثنائيات :الطهر/النجاسة، الفساد/الصلاح. فقد سعى أنور السادات مثلا إلى ترويج أخبار حول «الفساد» الذي استشرى في عهد من سبقه في محاولة واضحة لإرباك صورة جمال عبد الناصر في الذاكرة الجمعيّة ولكنّه لم يفلح وكذا كان الأمر مع صورة الزعيم بورقيبة.
ومنذ 14 جانفي برزت سردية تقرن كلّ أشكال الفساد بالرئيس السابق وعائلته. فبدا النظام السابق طيلة مرحلة الانتقال الديمقراطي، عنوان الفساد والنجاسة بامتياز رغم اعتراف كلّ المسؤولين بسرعة انتشار هذه الظاهرة في مرحلة الانتقال ومهارة 'الضالعين' في الفساد من النواب ورجال الإعلام والأعمال وغيرهم قصص وروايات. ومع ذلك ظلّت الحكومات المتعاقبة تصرّ على التموقع في مسار الإصلاح، وخدمة الصالح العامّ ومقاومة الفساد.
وبما أن السياسة لم تعد في نظر أغلب التونسيين مرتبطة بالأخلاق والفضيلة وخدمة الناس فقد صارت عبارة «أنا مستقلّ لا أنتمي لأي حزب «علامة على» التطهرية السياسية»، والهروب من السياسة التي تُتمثّل على أنها نجاسة: «الضرب تحت الحزام»، بل صار الواحد يعتبر نفسه الطاهر في مقابل الذين تورّطوا في عالم السياسة، أي النجاسة. والحال أنّ السياسة لا تدار بثنائيات قطبية: الأبيض/الأسود، الطهر/النجاسة... إنّها لعب على تناقضات الخصوم،وحسابات ومصالح تخضع لموازين القوى المحلية والعالمية.
وبما أنّ لغة التواصل تتأثر بما يطرأ على الناس من تحولات فقد ظهرت في الانتخابات الأخيرة، عبارات في الخطاب السياسي جسّدت القيم الجديدة فصار الحديث عن «التعايش مع الفساد» وعدم التطبيع مع «المفسدين» وغيرها. وما دام «كل إناء بما فيه ينضح» فقد تجنّب بعض المترشحين الحديث عن «قلب تونس» مفضلّين السلامة بينما سكتت أحزاب أخرى عملا بالحكمة «إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بالحجارة».
ولئن أصرت قيادات النهضة على استغلال شبهة الفساد ضدّ مؤسس «حزب المقرونة» لصالحها مذكرة التونسيين بمرجعيتها الإسلامية (حزب يعرف ربي) فإنّ سياق تشكيل الحكومة جعلها تغيّر موقفها فلم يعد التموقع ضدّ أحزاب «غير نظيفة،» ولم يعد ضرب «المفسدين في الأرض» أولويّة بل صار التفكير في «مَنْ يُخْرِجُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ؟» جائزا وحلالا.
وبناء على إكراهات تمليها موازين القوى تغدو وظيفة حزب النهضة «تبييض سمعة القروي وإضفاء الشرعية» على الحزب الثاني في البلاد، والاستنجاد بفقه الحيل، حتى وإن أدّى الأمر إلى تضليل الرأي العام بحجج من قبيل الدفاع عن حكومة الوحدة الوطنية، والتشاركية، وتوسيع الحزام...
ولكن هيهات فقد سقط «الحزام» وانكشفت العورة: لم تعد قيادات النهضة صاحبة خطاب منسجم ومتماسك قادر على التأثير، تُصاغ مضامينه بكلّ دقة ودهاء بل صار الأداء متعثّرا ومرتبكا وضعيفا يفضح المستور، ولم يعد سمير ديلو المتمرّس بفنّ الحجاج بعد أن «غلطوه».