وآن اليوم أن يرفع في تونس في ظل مخاوف الجميع من قول « ان المساواة في الإرث حق» بين الجميع، وان البحث عن مبررات دينية او اجتماعية او سياسية للحيلولة دون هذا هو انتكاسة ستطال الجميع، فالتاريخ اثبت ان مسار انتهاك «الحقوق الطبيعية» يمتد ليشمل الجميع دون استثناء لصالح «أقلية».
«المساواة في الإرث حق موش مزيّة» شعار الاحتفاء بـ«8 مارس» من هذه السنة، رفعته اكثر من 20 منظمة وجمعية حقوقية، بهدف الضغط لإقرار مبدأ المساواة بين الجنسين، بعد أكثر من 61 سنة على صدور مجلة الأحوال الشخصية، و6 أشهر على بعث لجنة المساواة والحريات الفردية، من قبل رئيس الجمهورية بمناسبة اليوم الوطني للمرأة.
ضغط يهدف الى تذكير التونسيين بان إقرار مبدإ المساواة في الميراث وترسيخ الحريات الفردية، بمراجعة المنظومة التشريعية التي تجرم «حقا طبيعيا»، ليس ترفا ولا «قضية هامشية» بل هي جوهر القضايا وأصلها. وما تهميشها خلال السنوات الفارطة إلا نتيجة التجاذبات الإيديولوجية والسياسية، التي استمرت بعد الثورة ولاتزال.
جدل ارتأى البعض ان يغلقه باستعمال «لا يجوز» و»مناف للشرع والإسلام»، في عملية انتقائية هدفها تعويم النقاش وإقحامه في تفاصيل فقهية وشرعية، والحال ان الأحكام الشرعية في المواريث واعادة تفسيرها مازالت هي الأخرى محل اختلاف في التفاسير والتأصيل بين مدارس فقهية متعددة، وان كانت «العقلية الذكورية» تهيمن على اغلب المدارس وتتجه بها الى «تحريم» المساواة.
لن نخوض في تفاصيل الأحكام الشرعية وما يقوله النص القرآني في آيات المواريث ومبدأ المساواة، فهذا انجرارّ بالنقاش وحصره في ما يقوله النص الشرعي وأحكامه وفق تصور «سلفي/ذكوري» للنص وعملية احتكار «للحقيقة»، يراد به إرباك عملية الإصلاح المجتمعي، وجعلها عرجاء، فإما التخلي أو التنازل والتأجيل لتمر بعض الاصلاحات الطفيفة، والحال أن أصل النقاش هو «المساواة» وما الإرث إلا تفصيل. دون ان نغفل عن ان المنظومة الشرعية خلال العقود الثلاثة الماضية تاقلمت مع مسالة الحدود والزواج وشهادة المرأة والتبني.
أي أنها تخلت عن تصور مفاده ان احكام الشريعة في المعاملات كالحدود والعبودية/ احكام الرق، والحرب/ الجهاد وقوامة المرأة، ليست من جوهر الدين وقائمة بقيامه بل تم تجاوزها على اعتبارها من فروعه وقابلة للتطور بتطور نسق الحياة ومقتضياتها، لكن حينما يفتح النقاش عن الإرث يصبح الفرع من الدين أصلا، لا لحجج شرعية بل لأعراف مجتمعية اقتصادية.
اليوم يبدو ان الاوان حان لكسر هذه الحدود التي رسمت لتحول دون المساواة التامة والفعلية بين الجنسين، والميراث احد ابرز النقاط الخلافية بين الداعمين والرافضين، واسباب الرفض ليست فقهية شرعية بل اقتصادية مجتمعية، لهذا وجب التركيز هنا على الأسباب الأصلية للرفض.
فهم الأسباب الأصلية سيخفف من حدة «الخوف» او «التوجس» وسيدفع الفاعلين السياسيين الى الخوض بشجاعة في الملف والقول صراحة ان المساواة بصفة عامة، و في الميراث بصفة خاصة، هي حق من الحقوق الطبيعية ، تماما كالحق في الحياة والأمن والحرية، وإنها لا تخضع الى «التدرج» او «الاجتزاء» بل هي كل متكامل لا تقبل الانتقاص.
القول بهذا ليس بالسهل، خاصة وان الصورة السائدة للمسألة تجعلها «من الدين» ومن المسلمات الثقافية والذهنية لجزء هام من المجتمع التونسي، سيعلن عن رفضه لاي تغيير في قانون المواريث التونسي. لكن في المقابل هناك شريحة واسعة وهذه المرة ليست من المثقفين، بل من كل الشرائح وخاصة الشباب، تدافع عن المساواة وعن الحريات الفردية، التي لايزال ينظر إليها في تونس على «انه ليس وقتها».
هذه النظرة تجعلنا جميعا نهدر فرصة تاريخية والى الأبد، وهذه الخشية، في دفع مجتمعنا الى التطور والقطع مع منطق التمييز بين فئاته من منطلق جنسي، ذكر أو أنثى، ديني وعرقي وآلية من آليات التصنيف وأدواته، التي نعاني منها كما كل المجتمعات الأخرى.
تلك المجتمعات التي ننظر إليها اليوم على أنها الرائدة لم يكن مسارها مختلفا عنا، بل مشابها لنا فعملية التطوير المجتمعية تواجه دائما الحرس القديم المدافع عن مصالحه، ولكن ما يحدد نجاحها أو إخفاقها هو إيمان النخبة السياسية والقانونية أن الإصلاح تكون بدايته بالتشريع والقانون.
ليس هذا فقط بل وجب أن تكون المدونة القانونية صريحة في إقرار الإصلاحات لا محتشمة او متدرجة، على غرار إقرار المساواة في الإرث كخيار، وتغفل عن ان الحالة الذهنية لعموم التونسيين ترفض ان ترث المرأة من اساسه، ليس من منطلقات دينية بل من منطلق العرف والتقاليد التي تعتبر ان توريث المرأة هو سماح «للغريب» بالتملك لـ«الثروة» والأرض. وهذه التقاليد لاتزال قائمة وستجعل من التدرج في اقرار المساواة بلا معنى وستهدر امكانية التغيير.
قانون يجعل من «الحق» خيارا، ليس فقط لا يغير من الواقع وينسف كل المراكمات التي تمت في مسار إقرار الحقوق الجماعية والفردية، بل هو مهين لنا كتونسيين، فنحن به نقبل بان تكون الحقوق مجتزأة عرجاء تمنح وفق مقاربة تمييزية، اليوم تقوم على التمييز الجنسي، وتجعل من الرجل كائنا فوق الطبيعة، وما عداه هم مجرد أشياء وممتلكات لا حق لها، وغدا يصبح التمييز قائما على العرق واللون واللسان والوضع الاجتماعي وغيره، لذا ان الاوان لنتحلى بالشجاعة ونقول أن البقر يمكن أكله، كما قالتها انديرا غاندي، وهي رئيسة وزراء الهند التي يقدس ثلثا سكانها البقر.