قد تصبح جدران الملعب البلدي وسط مدينة الرقة السورية الحدود الفاصلة بين زمنين، زمن كانت فيه «داعش» مهيمنة على اراض شاسعة في سوريا والعراق رسمت فيه «أسطورتها» كوعد إلهي سينتصرون به على العالمين، والثاني زمن ما بعد «داعش»، فالملعب شهد آخر مواجهات مسلحة بين قوات سوريا الديمقراطية وبين مقاتلي التنظيم الإرهابي، بعد ان حسمت معاركة دوار النعيم لصالح القوات الكردية.
زمن جديد بتنا فيه بزوال «دولة الخلافة» التي روجت «داعش» إلى أنها لن تزول وجمعت آلافا من المقاتلين على هذا «الوهم»، هؤلاء باتوا اليوم عنوان هذه المرحلة الجديدة، التي رسمت لها عدة سيناريوهات بعضها دقيق والأخر رسمته أسطورة»داعش»، الأول يقول بان خسارة الرقة ستسمح للتنظيم بإعادة الانتشار و تنظيم نفسه في بعض الجيوب التي تبقت له في العراق وعند الحدود العراقية السورية، وهو سيناريو يعتبر أن الطائفية في العراق وعدم استقرار الوضع في سوريا ستسمح للتنظيم الإرهابي بالتواجد في ظل مناخ يحفز على ذلك مستندين إلى تجربة طالبان في أفغانستان ، او استمرار مقاتلي القاعدة في العراق منذ 2003 ، وتتمكن «داعش» من الاستمرار بطريقة جديدة، لكن هذه الفرضية غاب عنها ان التنظيم يضم الآلاف من المقاتلين الأجانب، الذين لم تعد البيئة المحلية العراقية والسورية تحتضنهم.
السيناريو الثاني،وهو يفتقر للدقة، يقول بان التنظيم سيتجه نحو إفريقيا، مستغلا تدفق أفراد منه على مدى السنوات الفارطة على بؤر توتر بالقارة، بات اليوم بمثابة مناطق ارتكاز جديدة للتنظيم، ومن هذه المناطق كما يروج السيناريو ليبيا -مالي ومنطقة الساحل والصحراء. هذا السيناريو يغيب عنه تغير عدة مؤشرات إقليمية ودولية، وان التنظيم الإرهابي فقد جزءا هاما جدا من قدراته وإمكانياته اللوجيستية التي تسمح له بإعادة انتشار ضخمة ومنظمة.
ثالث سيناريو روج له ان التنظيم سيختفي وباختفائه سيتخلى «الجهاديون» عن فكرة إحياء الخلافة وإعادة النظر في الإستراتيجية التي قامت عليها «داعش» وربما العودة إلى التنظيم الأم «القاعدة» باعتبار ان قادتها وأساسا أيمن الظواهري عارضوا فكرة إنشاء الخلافة واعتبروا ان المرحلة لم تنضج لتبلغ «التمكين» وهو احد شروط إعلان قيام الخلافة.
هذا السيناريو ينقسم لثلاثة أجزاء، الأول هو ما سبق، أما الثاني والثالث فهما خروج مجموعات وأفراد والذهاب إما إلى أقصى يمين انطلاقا من فكرة تنظيم داعش، أو إلى أقصى يسارها، أي انه يتحدث عن بروز تنظيم اكثر تطرفا من «داعش» يكفر المدنيين من الشعوب الإسلامية السنية ويعتبرهم هدفا كغيرهم وهذا التنظيم ان ظهر سيكون عماده المنتسبين للتيار الحازمي في تنظيم داعش حاليا.
أما القسم المتعلق بالذهاب إلى أقصى يسار فكر التنظيم، فهو سيناريو يقوم على ان المراجعة التي سيقوم بها المنتمون لـ»داعش» سيكون جزء منها فرديا يضع كل شيء محل تساؤل وشك، في ظل حالة نفسية قد يعاني منها عدد من الدواعش. أما السيناريو الرابع فهو نهاية مرحلة التنظيمات الجهادية وبداية عصر «الذئاب» الذي يعتبر ان خطر العائدين من مقاتلي داعش الى دولهم وخاصة الغربية، سيتوجهون الى تنفيذ عمليات إرهابية مخطط لها بشكل منفرد. وسيكون ذلك بداية لشكل جديد من «الجهاد العالمي» الذي يقوم على مبادرة الأفراد دون حاجة لتنظيمات مهيكلة.
ليست هذه فقط السيناريوهات المتوقعة لما «بعد داعش»، اذ هناك فرضيات تعتبر ان «داعش» يسعى إلى بناء قاعدة تنظيمية جديدة تعتمد على التحالف والانصهار مع تنظيمات جهادية عالمية أخرى. عملية إعادة تشكيل الصفوف هذه تقوم على ان الشكل القادم للتنظيم سيكون مرتكزا على «خلايا صغيرة» لها قدر كبير من مرونة الحركة. مع ترجيح تخلى هذه الكيانات الصغرى عن فكرة السيطرة على اراضي والتوجه الى معارك استنزاف في ظل دخول التنظيمات الجهادية الى مرحلة «الاستضعاف».
بعبارة اكثر اختزالا دون الخوض في الكثير من التفاصيل، الزلزال الذي وقع في المنطقة يؤكد ان «مستقبل» تنظيم داعش، ومن خلفه التنظيمات الاجتهادية، مفتوح على كل الخيارات، بعضها معقول وبعضها لا.
تونس ما بعد «داعش» الإرهابي
نهاية تنظيم «داعش» بالنسبة للتونسيين، شأن يرتقى ليصنف كملف داخلي، نظرا لحجم التونسيين الملتحقين بالتنظيم الإرهابي منذ 2011، بمسمياته العدة التي أخذها، فالاحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية التونسية، تشير الى وجود اكثر من 3500 تونسي في بؤر التوتر اكثر من 70 % منهم منتشرين في العراق وسوريا.هذا الرقم الذي لم يستثن منه من قتلوا، المقدر بـ2400 شخص.
هنا يكمن الخطر، في ظل الحديث عن سيناريوهات عودة الأجانب إلى بلدانهم، كما حدث بعد انتهاء الحرب الأفغانية، وظهور ما عرف بـ«الأفغان العرب»، لكنه ليس بالكيفية التي يصورها البعض، اذ موضوعيا المعطيات والمؤشرات التي بنى عليها البعض تصورهم، تسقط الكثير من الحقائق.
اولها ان العودة، ان تمت لن تكون عودة جماعية، أي ان المئات من التونسيين في سوريا والعراق لن يحل ركبهم في اطار رحلات منظمة تونس، بل سيكون سبيل العودة فرديا، وليس بالسهل، لعدة عوامل، اولها غياب تنظيم مهيكل يوفر تغطية وملاذات آمنة لأفراده في تنقلهم من الرقة او الموصل الى خارجهما، حيث ان طريق الخروج منهما صعبة وخطيرة في ظل استهداف محلي واقليمي ودولي للتنظيم وأفراده.
طريق العودة، ان جازت التسمية، لا تقتصر المخاطر فيه عند نقطة مغادرة الاراضي السورية والعراقية فقط، فدول الجوار المحيطة بهما، تعادى اليوم تنظيم داعش وتتصيد افراده، أي ان التسلل اليها لن يكون آمنا ولا البقاء فيها واعتمادها كقاعدة انطلاق جديدة نحو أي بلد لن يكون بالهين ولا الممكن ان كان من يقوم بالامر مجموعة.لذلك فان غياب التنظيم المهيكل الذي يوجه أفراده يجعل كل أجنبي انتسب لتنظيم داعش اليوم يبحث عن حلول فردية، اساسها التخفي والاختباء والبحث عن ثغرات للتنقل تدريجا.
ذات الاسباب الموضوعية التي تحول دون عودة «جماعية» لتونسيين التقحقوا بتنظيم داعش تحول اليوم دون تطبيق سيناريو اعادة الانتشار الذي يعتبر من السيناريوهات الخطرة على تونس، خاصة ان وقع الانتشار في ليبيا، فموضوعيا ضرب الشبكات التي نشطت في نقل الاجانب الى سوريا والعراق، وانهيار القدرات اللوجستية والمالية للتنظيم يحول دون تمكنه من نقل أفراده في شكل مجموعات الى أي رقعة في الأرض دون ان يقع التعرض لهم، القتل او السجن. وان اخذ خيار التنقل في شكل فردي فان ذات العوائق ستعترضه.
هذا دون اغفال ان تنظيم داعش في ليبيا، او ما تبقى من جيوب التنظيم ، لن تكون قادرة على جلب مقاتلين من سوريا والعراق ليتمركزوا في معسكراتها، بسبب خسارة التنظيم لمناطق نفوذه ولمنافذ امنة تسمح بالتنقل الى الجيوب التي ينتشر فيها بالداخل الليبي.
عمليا الخطر قائم لكن ليس كما يراه البعض ان تونس باتت اليوم تعيش على خطر «احتلال» جزء من اراضيها من قبل العائدين، الذين فتحت لهم معابر جوية تنقلهم مباشرة الى احدى المناطق في تونس ا والى دول جوارها، الخطر يمكن في ردات فعل المنتسبين للتنظيم ممن لم يغادورا تونس وفي تسلل بعض العائدين الى الداخل التونسي، والتحاقهم بالجماعات الارهابية في الجبال، او التمركز في المدن دون تفطن الاجهزة الامنية.