ضيقة متفرقة بين العراق وسوريا.
ربيع 2015 حمل نبأ أول انتصار تحققه القوات العراقية مرفقة بالحشد الشعبي على تنظيم «داعش» الإرهابي، لتتوالى أخبار خسارة التنظيم الإرهابي لمقاتليه وأراضي كانت تحت سيطرته، ليحل سبتمبر 2017 وقد فقد التنظيم كل مقومات «أسطورته» قراءات هذا الانهيار السريع كلها تلتقي على أهمية عمل التحالف وعلى عوامل أخرى دون ان تلقى الضوء على ما قد يكون ابرز عامل للانهيار.
مقتل المؤسسين
التنظيم خسر في السنوات الثلاث الماضية كل الصف الأول من قياداته باستثناء زعيمه أبو بكر البغدادي الذي لم تشر تقارير روسية إلى مقتله، بعد ثلاث سنوات من مقتل «مهندس الدولة» الفعلي سمير عبد محمد الخليفاوي المعروف باسم «حجي بكر» صانع أسطورة داعش.
اذ في شهر جانفي 2014، وبعد أشهر من انتشار تنظيم «داعش» على مساحات جديدة من العراق وسوريا، قُتل «حجي بكر» أثناء تبادل لإطلاق النار بينه وبين مقاتلي «مجاهدي ريف حلب الشمالي» في منطقة تل رفعت شمال حلب، ليفقد التنظيم أحد أخطر قادته الذي اطلقت عليه دير شبيغل الألمانية تسمية «مهندس الدولة، في تحقيق نشرته افريل 2015 كشفت فيه هوية حجي بكر التي ظلت مجهولة قبل ذلك.
سمير عبد محمد الخليفاوي المكنى بـ«حجي بكر»، ضابط سابق في الجيش العراقي، برز كمخطط استراتيجي لتنظيم «داعش» وكان الرجل القوي في المجلس العسكري للتنظيم الذي خلق التنظيم بشكله المعروف عليه حاليا، كما انه كان صاحب فكرة استغلال الفوضى في سوريا الناجمة عن اندلاع الثورة فيها، لإنشاء كيان سياسي.
فسوريا مثلت مدخلا للسيطرة على العراق ضمن خطة «حجي بكر» التي تستند على إنشاء «الدولة الإسلامية» من القمة، وفق وثائق نشرتها المجلة الألمانية تتكون من 31 صفحة تظهر برنامجًا دقيقا لإقامة «الخلافة» انطلاقا من أراضي سيهيمن عليها التنظيم في الشمال السوري، كما تضمنت معطيات عن هيكلة تنظيم داعش.
مقتل العقل المدبر لتنظيم «داعش « لم يكن وحده كافيا لانهيار التنظيم لكنه كان أول أحجار الدومينو التي تساقطت، لينطلق الانهيار فبغياب الرجل شهد التنظيم خسائره التي تضاعفت تدريجيا بخسارة «قادة» آخرين من الوزن الثقيل، خاصة في صفوف الشّق العراقي بالتنظيم، الذي هيمن على كامل مفاصل التنظيم وهياكله على غرار عبد الرحمان القادوني المعروف باسم «أبو علي الأنباري»، او كما تطلق عليه وزارة الدفاع الأمريكية «حجي إمام».
الأنباري بات الرجل الأقوى في تنظيم داعش ميدانيا بعد مقتل «حجي بكر» حيث امسك بملفين هامين في التنظيم، الملف المالي والملف الأمني، الى حين مقتله مارس 2016، في غارة جوية على دير الزور شرق سوريا، نفذتها القوات الجوية الأمريكية.
قبل ذلك فقد التنظيم الإرهابي احد أركانه الأساسية وهو فاضل أحمد عبد الله الحيالي،المعروف باسم «ابو مسلم التركماني» نائب الخليفة، التركماني كان مقدما في الاستخبارات العسكرية العراقية، ثم أصبح ضابطًا عسكريًا في القوات الخاصة التابعة للحرس الجمهوري، لينتهي برتبة عقيد عسكري في الفيلق الثالث، مما جعل الولايات المتحدة الامريكية تخصص جائزة مالية قيمتها 20 مليون دولار لمن يقدم معطيات تساعد على القضاء عليه.
رغبة حققها الجيش الأمريكي، اذ نعى المتحدث السابق باسم التنظيم أبو محمد العدناني في تسجيل صوتي أبو مسلم التركماني قائلاً: «فرحت أمريكا وطارت بقتل الشيخ أبي معتز القرشي وأوهمت نفسها بأن هذا نصر كبير»، ليلقى العدناني ذات المصير وبموته فقد «داعش» وجهه الإعلامي مثلما فقد أيضا قائد «كتيبة المهاجرين» أبو عمر الشيشاني، الذي بموته عانت احدى اهم مجموعات داعش المسلحة من خسائر كبيرة.
خسائر داعش التي تتضاعف مع مقتل كل قيادييها البارزين، فالتنظيم الذي فقد فعليا اغلب رجال الصف الاول، او ما قد يطلق عليه باسم المؤسسين، يعاني من خسائر في قياداته الوسطى وفي «امراء» المناطق، فقادة «الولايات» او كما يطلق عليهم التنظيم «الولاة» اغلبهم لقي مصرعه في السنوات الثلاث الفارطة.
صراعات داخلية
بغياب الصف المؤسس وخاصة عقله المدبر «حجي بكر» ونائب الخليفة ابو مسلم التركماني، وجد التنظيم نفسه يخوض صراعات داخلية، فاقمت منها خسائر التنظيم لمعارك ميدانية في العراق أساسا، كما ان العشرات من القياديين العسكريين والشرعيين والاستراتيجيين داخل تنظيم الدولة الإسلامية لقوا مصرعهم خلال سنوات من القتال في العراق وسوريا.
اذ يعاني التنظيم بعد فقدانه لابرز قادته من حالة انقسام داخلي حادة عبرت عن نفسها باكثر من شكل ليس اقله،تصفية داخلية لعدد من قيادات وعناصر التنظيم عبر عمليات اغتيال أو من خلال أحكام أصدرتها محاكم التنظيم الشرعية، على غرار قتل قياديين عراقيين سعيد الجبوري بتهمة نقض البيعة والتمرد على قرارات «الخلفية»، و محمد طيب الملقب بأبي جابر العراقي بتهمة «التولي من الزحف» بمعنى الفرار من القتال.
هذان القتيلان ليسا أول ولا يبدو انهما أخر عناصر قيادية يقع تصفيتها في «داعش» الذي تتواتر الأخبار منذ 2016 عن عمليات تصفية يقوم بها قادة التنظيم لمختلفين عنهم في التصور او لمن يجاهر بالانتقاد لخيارات عسكرية او ميدانية كلفت خسائر كبرى.
تصفية تندرج أيضا في إطار الصراع المحتدم في «الشق العراقي» من التنظيم بين مجموعات تتمركز في قرى متفرقة من ولاية الانبار بالعراق، يبحث كل منها عن بسط سيطرته على ما تبقى من التنظيم الذي يعاني من انقطاع الاتصال بين أعضائه بسبب محاصرة الجيش العراقي والحشد الشعبي لجيوب التنظيم في مناطق متفرقة.
كما ان فقدان تنظيم «داعش» لعاصمته الموصل، والتي بفقدانها فقد تمركز القرار في منطقة محددة بالعراق وهو ما يحدث له لأول مرة منذ 2010، مثلما فقد قيادة واضحة وموحدة، بعد مقتل أغلب قيادات الصف الأول في التنظيم على المستوى الشرعي والعسكري مما أدى إلى تعدد مصادر اتخاذ القرار داخله في العراق وانتهاء مرحلة المركزية في خطوات التنظيم.
لكن رغم أهمية دور فقدان قادة الصف الأول/ المؤسسين في وقت سريع وقياسي، لم يكن هذا فقط ما اضعف التنظيم الإرهابي، الذي ومنذ نشأته شهد انقسامات وبروز صراع مع القاعدة ومناصريها في العراق وسوريا، بل تضافرت جملة من العوامل على غرار حسن استغلال القوات العراقية والسورية والدولية ايضا لحالة «الصدمة» التي أصيب بها التنظيم.
فخسارة الأرض بعد خسارة القيادات، وتضييق الخناق عليه، أدى الى نقص في موارده المالية وهي عصب حياة التنظيم، وما رافق ذلك من بروز انقسامات خفية سرعان ما برزت للعلن بشأن مسائل فقهية ادت الى انقسام التنظيم الى مجموعتين يعرفان بـ»البنعلية» نسبة الى التركي بن علي المنظر الشرعي للتنظيم منذ 2015، الذي ينظر اليه على انه اقل تطرفا من تيار «الحازمية» نسبة لمنظره أحمد بن عمر الحازمي.
صراع فقهي اثر في البنية التنظيمية لـ»داعش» المتآكلة بطبيعيتها بسبب خسارته لمعظم قادته الكبار وانحسار نفوذه، الذي ساعد على ان يندلع صراع «فقهي» ينذر بنهاية التنظيم في شكله الحالي. فالخلافات العقدية والمنهجية صعدت من حدّة الانشقاقات والصراعات والتكفير المتبادل الذي طال قيادات عليا في التنظيم. بلغت حد نشر صحيفة «النبأ» وهي الصحيفة العربية التي يصدرها التنظيم لمقال في عددها 85 بعنوان «»رموز أم أوثان» لمح كاتبه الذي لم يذكر اسمه إلى كفر أبي بكر البغدادي، في تطور خطير لصراع الحازمية و البنعلية.
فالتنظيم الذي أعلن الخلافة وقدم نفسه على انه تجاوز كل الخلافات الفقهية، باعتبار ان شرعييه حسموا مواطن الخلاف كتكفير عموم الشيعة وتكفير الجماعات الإسلامية وتكفير الديمقراطية والانتخابات، وحشد مؤيديه وأفراده حول مجموعة من القناعات والأفكار البسيطة .
فمهندس التنظيم «حجي بكر» ولدى توليه التخطيط للتنظيم قبل مقتله، جعله تنظيم عسكريا محاربا لا فرق كلامية تنغمس في مسائل التكفير والأسماء والصفات والعذر بالجهل وغيرها من الإشكاليات التي اصطدم بها التنظيم في فترة انحساره، ويبرز التيار الحازمي الذي لا «يعذر بالجهل» ويكفر كل من يعذر بالجهل، أي انه يكفر شقا هاما من التنظيم.
هنا برز عدد من قادة التنظيم التونسيين، الذين كانوا في وقت سابق أعضاء اللجنة الشرعية لتنظيم أنصار الشريعة المحظور، هؤلاء تتلمذ بعضهم لدى الحازمي، فناصروا فكرته بعد التحاقهم بمعاقل التنظيم في سوريا والعراق وكانوا أبرز من روج لها في مؤسسات التنظيم، كديوان الإعلام والقضاء والجند ومجلس الشورى واللجنة المفوضة.
وباختراق «الحازميون» معظم مفاصل تنظيم الدولة الإسلامية، وضمان وجود مؤثر في ديوان الإعلام وديوان القضاء والهيئات الشرعية، و سيطروا على اللجنة المفوضة أكبر هيئة قيادية بعد «الخليفة» التي أصدرت وثيقة قالت فيها بأنها تكفر من لا يكفر بالجهل، أي انها لا تعذر بالجهل ولا تعذر العاذر به.
هذا الخلاف الفقهي المتشعب بدوره افقد التنظيم احد ابرز مميزاته، اذ لم يعد تنظيما عسكريا متماسكا بل مجموعات متناحرة فما بينها، يسعى كل منها إلى تصفية الأخر من مؤسسات التنظيم ويتهمه بـ»التآمر» على الخلافة.
تهمة تبيّن ان التنظيم الذي يعيش أخر أيامه - لا تنظيميا بسبب خسائره الميدانية إنما فكريا/إيديولوجيا- تشظى وانهار فعليا بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة، وما استمراره إلا ليمهد لبروز تنظيم لاحق سيكون اكثر عنفا منه لكن لن يعلن الخلافة.