في هذه الظرفية المضطربة والمتغيّرة شقت تونس طريقها نحو بناء كيان مستقل وحاولت المحافظة على هذا الكيان رغم الأزمات والحروب وعدم الاستقرار في الداخل والخارج. ومرّت علاقاتها الخارجية بثلاث مراحل كبرى مرحلة ما قبل 1881 أو مرحلة البحث عن الذات وبناء كيان تونسي مستقل ثم مرحلة الحماية الفرنسية وتواصل الدفاع عن الذاتية التونسية ثم مرحلة الاستقلال وهي مرحلة النضج وبناء الدولة المستقلة.
تونس دولة منفتحة على العالم:
وقعّت تونس حتى 1956 مع الدُول الأجنبية خاصّة الغربية 101 معاهدة واتفاقية منها 68 اتفاقية ومعاهدة محفوظة بالأرشيف الوطني والبقية نعلم بوجودها وبنصوصها عن طريق مصادر أخرى. وقعت هذه المعاهدات مع اغلب دول أوروبا مثل فرنسا والممالك الايطالية ثم ايطاليا الموحدة وبريطانيا والبرتغال واسبانيا والنمسا والسويد .... إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وتثبت هذه المعاهدات انفتاح تونس وتنوع علاقتها الخارجية وتوازن تلك العلاقات.
كتبت المعاهدات بلغات مختلفة:
- 26 معاهدة واتفاقية كتبت باللغة العصمانلية إلى جانب لغة أخرى (اسبانية أو ايطالية)
- 20 معاهدة واتفاقية استعملت فيها اللغة العربية وذلك بداية من 1839
- 10 معاهدات أو اتفاقيات استعملت فيها اللغة الاسبانية خاصّة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر
- 61 اتفاقية ومعاهدة استعملت فيها اللغة الفرنسية
- 25 اتفاقية ومعاهدة استعملت فيها اللغة الايطالية
- 09 معاهدات واتفاقيات استعملت فيها اللغة الانجليزية.
وقّع هذه المعاهدات والاتفاقيات حكام ايالة تونس وليس ممثلي الباب العالي وفي أغلب الأحيان دون الرجوع للباب العالي ممّا يطرح مسألة حقيقة العلاقة وحدودها بين تونس والدولة العثمانية
تونس والباب العالي:
تراوحت العلاقة بين تونس والباب العالي بين المتانة والفتور وبين التبعية والاستقلالية.
كان تضامن تونس مع اسطنبول تضامنا فعّالا ولامحدودا زمن الأزمات ولكن العكس لم يكن دائما صحيحا. فعلى سبيل المثال والذكر ساهمت تونس في أواسط القرن السابع عشر في الإنزال العسكري التركي بجزيرة كريت بسفن حربية. وفي سنة 1827 دمّر الجزء الأهم من الأسطول التركي-المصري بعد مهاجمته من قبل تحالف فرنسي-انكليزي- روسي وذلك على إثر السعي اليوناني للاستقلال، وهو سعي مدعوم من البلدان الغربية وروسيا. وفي سنة 1856 شاركت تونس مشاركة هامة في حرب القرم بشكل لا يتناسب مع إمكانياتها العسكرية حيث دفعت بما يقارب عشرة آلاف رجل إلى هذه المعركة قضى معظمهم واستقر عدد منهم بتركيا بعد انتهاء الحرب. وكان خير الدين مبعوث الباي إلى فرنسا قد باع مجوهرات للإعداد لهذه المشاركة دعما للدولة العثمانية.
أما في خصوص الجنوح إلى الاستقلالية فإن عدد المؤشرات والوقائع تدعم هذا السعي. لقد أخد العلم التونسي ملامحه النهائية الحالية منذ حسين باي الثاني (حكم من 1824 إلى 1837) وهي راية تختلف عن الراية العثمانية وان كانت تشبهها.
فإضافة إلى توقيع الاتفاقيات مع الدول الأجنبية دون الرجوع إلى الباب العالي فإن مسألة استعمال اللغة العربية والإحجام عن اللغة العصمانلية يعد أمرا بالغ الأهمية.
ان الوثائق التي تم جمعها وحفظها عند إنشاء «خزنة حفظ مكاتيب الدولة» سنة 1874 من قبل الوزير الأكبر خير الدين والتي تهم مجمل ما أنتجته الإدارة حتى ذلك التاريخ كتبت في أغلبيتها الساحقة باللغة العربية. لقد قام المؤرخ روبارت منتران بجرد الوثائق التركية بأرشيف دار الباي المتعلق بفترة ما قبل 1881 فوجد أن عددها لا يتجاوز 1500 وثيقة و100 دفتر على مجموع يفوق 400 ألف وثيقة و15 ألف دفتر.(1)
وحتى في التراسل مع الباب العالي أصبح احمد باي منذ سنة 1838 يستعمل اللغة العربية.
من جانب آخر استعملت العائلة الحسينية الحاكمة بتونس منذ 1705، وبشكل تدريجي وتصاعدي، عناصر تونسية محلية بالمدن وقبائل مخزنية بالأرياف لممارسة السلطة وبسط نفوذها على المستوى المركزي والمحلي وتثبت الوثائق الإدارية والدفاتر المحفوظة بالأرشيف الوطني ذلك.
فمع احمد باي ضعفت العلاقة مع الدول العثمانية وأصبحت تونس تتعامل مع الخارج كدولة مستقلة تماما إلى درجة أن احمد باي رفض العمل بالإصلاحات التي أقرتها اسطنبول سنة 1837 بل وأرسل أحمد ابن أبي الضياف إلى الباب العالي لإبلاغ هذا الرفض وشرحه.
وفي المقابل تمتنت علاقة تونس بأوروبا وخاصّة فرنسا التي زارها أحمد باي في بداية سنة 1846 وأعجب بنهضتها وقرّر النسج على منوالها. كما أقام خير الدين مبعوث للدولة التونسية بباريس بين 1853 و1856 للدفاع عن المصالح التونسية في القضية التي رفعتها تونس ضدّ محمود بن عياد الذي اختلس أموال الدولة وفرّ إلى أوروبا. وعاد خير الدين مرّة ثانية لأوروبا ممثلا الدولة التونسية بين 1863 و1867. كما أن محمد الصادق باي الذي تولى الحكم سنة 1859 سافر إلى الجزائر وتقابل مع نابليون الثالث سنة 1860.
بعد الاحتلال:
أدت صعوبات الخزينة التونسية والصراع الغربي على المستعمرات إلى وقوع تونس تحت الحماية الفرنسية سنة 1881 وفقدت استقلالها فأصبحت مشمولات العلاقات الخارجية لتونس في يد فرنسا. لكن النخبة الوطنية رفضت ذلك وأصبحت الناطقة باسم المصالح التونسية.
كان محمد باش حامبة خلال الحرب الكبرى من أبرز الناشطين في الحركة المعادية لفرنسا والموجودة في سويسرا وألمانيا حيث شارك في شهر جوان 1916 باسم تونس والجزائر في المؤتمر الثالث للقوميات المنعقد بمدينة لوزان وقد نظمه «اتحاد القوميات العالمي». وألقى فيه خطابh ندّد فيه بالسياسة الفرنسية الاستعمارية بتونس والجزائر.
وفي جينيف أسس محمد باش حامبة «اللجنة الجزائرية التونسية لتحرير المغرب العربي» وبإسم هذه اللجنة وجّه تقريرا مفصّلا إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا تحت عنوان «مطالب الشعب الجزائري التونسي وقد أمضاه كل من :
- الشيخ صالح الشريف- مدرّس سابق بالجامعة الزيتونية
- محمد الخضر بن حسين
- الشيخ محمد الشيبي التونسي
- محمد بيراز الجزائري
- حمدان بن علي الجزائري
- محمد باش حامبة
كما وجهت اللجنة برقية يوم 02 جانفي 1919 إلى الرئيس الامريكي ولسن تطالب فيها بحرية الشعبين التونسي والجزائري. أصدر محمد باش حامبة عدّة نشريات تدافع عن القضية التونسية- الجزائرية وخاصّة «مجلة المغرب» بجينيف. وكانت ردّة فعل فرنسا على نشاط الوطنين خارج تونس إصدار أمر علّي بحجز أملاك كلّ من:
- إسماعيل الصفايحي القاضي الحنفي السابق
- صالح الشريف المدرس السابق بجامع الزيتونة
- الطيب جميل أمين فلاحة سابق
- محمد باش حامبة حاكم سابق بالدربية
وتوفي محمد باش حامبة بالمنفى ببرلين سنة 1920 ودفن في مقبرتها الإسلامية.
في نفس الظرفية برز نشاط النخبة الوطنية في تونس وفرنسا حيث تم إصدار كتاب «تونس الشهيدة» بباريس في 1920 حيث قام الشيخ عبد العزير الثعالبي بدور أساسي وفعال في إعداد وبلورة الكتاب الذي حرّره أحمد السقا المحامي بباريس. وقد تم الاعتماد في صياغته على تقارير أعدّها الشباب التونسي بتونس. وحُوكم الثعالبي بعد رجوعه لتونس بسبب هذا الإصدار.
ثم جاءت هجرة الشيخ الثعالبي إلى المشرق من 1923 إلى 1937 حيث قام بنشاط مكثف بالعديد من البلدان.
وفي الثلاثينات برز نشاط الطلبة التونسيين في «النجم الشمال إفريقي» وكذلك في «جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين» بباريس في أوساط الطلبة التونسيين والجزائريين والمغاربة ونشأ بين هؤلاء تلاحم وتضامن عظيمين.
النشاط الخارجي للوطنيين بعد الحرب العالمية الثانية:
تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالنشاط الحثيث للزعيم الحبيب بورقيبة . فقد سافر بورقيبة إلى مصر في مارس 1945 أين تأسس «مكتب المغرب العربي». وفي ديسمبر 1945 يسافر بورقيبة إلى نيويورك ثم يعود إليها في ديسمبر 1946. أثناء هذه الزيارة وفي يوم 6 ديسمبر يلتقي الأمير فيصل وبالم دين اتشسون مساعد وزير الخارجية الأمريكي في حفل أقامه ممثلو الدول العربية لدى الأمم المتحدة على شرف فيصل. وفي 15 جانفي 1947 يلقي بورقيبة محاضرة عن قضية شمال إفريقيا بالنادي المشرقي بواشطن.
ثم تقابل من جديد مع اتشسون وكان مرفوقا باندرسون رئيس شعبة الشرق الأدني والشمال الإفريقي بوزارة الخارجية الأمريكية اللذين أصغيا لبياناته عن قضية تونس والمغرب العربي وكانت مقابلة رسمية وذلك يوم 23 جانفي 1947.عاد بورقيبة إلى القاهرة لمواصلة كفاحه وفي ديسمبر 1948 أسندت له خطّة الأمانة العامّة للجنة تحرير شمال إفريقيا التي يرأسها الشيخ الخضر بن حسين.
وفي 13ديسمبر 1949 فجعت تونس بوفاة الدكتور الحبيب ثامر في حادث طائرة لما كان عائدا من لاهور إلى كراتشي حيث كان يمثل تونس في المؤتمر الاقتصادي الإسلامي.
في أفريل 1950 سافر بورقيبة إلى فرنسا وفي بداية شهر ماي 1950علّق بورقيبة وهو في باريس على خبر يتعلق بنية إحدى الدول العربية تقديم القضية التونسية على هيئة الأمم فقال:
«أن موقف الحزب الحر الدستوري التونسي لم يتغير، حيث مازال هذا الموقف يرتكز على مبدأ إجراء محادثات بين تونس وفرنسا مباشرة للوصول إلى استقلال لا تنقطع بسببه علائق الود والتعاون التي يقع الاتفاق عليها بكل حرية بين الطرفين».
وفي مارس 1951 : يسافر بورقيبة إلى الهند وباكستان . وفي 14 أفريل 1951: خطب بورقيبة أمام البرلمان الأندونيسي. وفي17 جويلية 1951 يتحول بورقيبة إلى أوروبا حيث حضر الندوة السنوية للنقابات الحرّة CISL بمدينة ميلانو.
- وفي 24 جويلية تم استقباله بمقر البرلمان الأنقليزي من طرف كتلة حزب العمّال.
وفي بداية أوت قام بجولة دعائية إلى البلدان السكندنافية ثم عاد إلى لندن في 21 من نفس الشهر
في7 سبتمبر 1951 يحل بالولايات المتحدة ويقوم صحبة فرحات حشاد بالدعاية للقضية التونسية أين تم استقباله صحبة حشاد من طرف أعضاء من الكونغرس الأمريكي.
في 25 أكتوبر 1951 يصل بورقيبة إلى مدريد ثم ينتقل إلى طنجة (01 نوفمبر) تليها روما (05 نوفمبر) وفي 01 ديسمبر ينتقل بورقيبة إلى تركيا ومنها إلى القاهرة.
وفي 15 ديسمبر 1951 صدرت المذكرة الفرنسية الموجهة للباي معلنة عن فشل المفاوضات وفي 23 ديسمبر يصرح بورقيبة من باريس «لم يبق أمام الشعب إلا الأمم المتحدة ووسائله الخاصة لخوض معركة المصير». وفي 02 جانفي 1952 يعود بورقيبة إلى تونس.
وفي 18 جانفي يبعد بورقيبة والمنجي سليم إلى طبرقة ثم إلى رمادة ثم إلى جزيرة جالطة أين بقي عامين. وفي 26 مارس تمت إقالة حكومة محمد شنيق وإبعاد أعضائها إلى الجنوب
في 04 ديسمبر 1952 بدأت مناقشة القضية التونسية في الأمم المتحدة
في 05 ديسمبر يتم اغتيال فرحات حشاد
في 06 ديسمبر صادقت الأمم المتحدة على قرار يدعو الطرفين التونسي والفرنسي للتفاوض. وبعد أشهر عديدة وفي 20 أكتوبر 1953 بدأت مناقشة القضية التونسية في المنتظم الأممي وطالبت الكتلة العربية الآسيوية باستقلال تونس على مراحل تتم على 3 سنوات. كما صادقت المنظمة الأمميّة على لائحة تطالب بتعيين حكومة تونسية مسؤولة عن طريق برلمان
منتخب انتخابا حرّا. وتتولى هذه الحكومة التفاوض مع فرنسا.
وفي 20 ماي 1954 نقل بورقيبة من جالطة إلى قروا على سواحل مقاطعة بريطانيا الفرنسية وفي17 جويلية 1954 نقل من جزيرة قروا إلى قصر لافيرتي على بعد 110 كلم من باريس وشرعت فرنسا في التفاوض معه عن طريق احد قادة الحزب الاشتراكي.
وفي 31 جويلية 1954 جاء تصريح بيار منداس فرانس أمام الباي واقراره مبدأ الحكم الذاتي لتونس
وبدأت المفاوضات، فتكوّنت حكومة الطاهر بن عمار وتم الحصول على الاستقلال الداخلي في 03 جوان 1955. وفي 29 فيفري 1956 بدأت المفاوضات من أجل الاستقلال التام التي قادها كل من:
-الطاهر بن عمار
- الباهي الأدغم، كاهية رئيس الحكومة –وزير المالية
- المنجي سليم وزير الداخلية
- محمد المصمودي وزير الاقتصاد
وتم توقيع وثيقة الإستقلال التام لتونس في 20 مارس 1956.
(يتبع)
(1) Mantran (Robert) : Inventaire des documents d’archives Turcs à Dar El Bey (Tunis). Puf- 1961.