مؤتمر اتحاد الشغل: حتمية الخروج من سجن الاِستقلالية ...

بقلم: مختار بوبكر
تتجه أنظار المتابعين للشأن السياسي إلى فعاليات مؤتمر إتحاد الشغل وما يمكن أن يتمخّض عنه من نتائج والتي سوف تكون لها حتما انعكاسات على المشهدين الاِجتماعي والسياسي .. فإتحاد الشغل بالرغم من كونه منظمة نقابية مهنية يعد تشكيلة سياسية فاعلة منذ منتصف

القرن الماضي وأحد الفاعلين السياسيين الّذين يقرأ لهم ألف حساب ...

والاتحاد ظل لحقبة تاريخية طويلة طرفا فاعلا في الساحة السياسية وشكّل نوابه ثلث أعضاء المجلس التأسيسي الأوّل ضمن قائمات الجبهة القومية، وتحمّل أحد قادته مسؤولية رئاسة المجلس بالنيابة، كما آلت إلى الاتحاد رئاسة لجنة صياغة الدستور في شخص أمينه العام، هذا إلى جانب تفرّغ العديد من قادته لتحمّل مناصب وزارية ضمن الحكومات المتتالية لدولة الإستقلال، وكان له حضور بارز في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري منذ مؤتمر صفاقس 1955 (أحمد التليلي، عبد الله فرحات )، وتحمل مناضلوه أعباء إدارة العديد من الشركات العمومية ولعبوا دورا حاسما في تَوْنَسَةِ الإدارة.. بعد ذلك الانخراط الكلّي في الشأن السياسي العام وبعد أن كان نواب مؤتمره السادس سنة 1956 قد صوتوا بالإجماع على لائحة الاِندماج التنظيمي والتي تجعل من الإتحاد جزءا من الحزب الحر الدستوري .. بعد

كل ذلك تسربت إلى صفوفه فكرة الاِستقلالية وهي فكرة تبدو للوهلة الأولى جذّابة لدى شرائح واسعة من النقابيين وخصوصا أولئك غير المنحدرين من خلفية دستورية وهي فكرة ضبطت إيقاع الاتحاد وكيّفت سياساته منذ منتصف الستينات وخصوصا مع نهاية عشرية السبعينات ... هذا الأمر لا يجب أن يخفي علينا حقيقة تاريخية لا جدال حولها وهي أنّ الاتحاد «صناعة» دستورية 100 % وأنّ كافة قيادييه ينحدرون من الأفق الوطني الدستوري، وأنّ المناضلين النقابيين اليساريين حافظوا في الحقبة الاستعمارية على انتمائهم إلى الإتحاد الإقليمي لـــ س.ج.ت بتونس وهي منظمة نقابية مرتبطة بالحزب الشيوعي التونسي المرتبط بدوره بالحزب الشيوعي الفرنسي والتحق أغلبهم بعد الإستقلال بصفوف الإتحاد العام التونسي للشغل ..

لكن بالرغم من بروز مصطلح الإستقلالية والشروع في تداوله ضمن أدبيات المنظمة، فإنّ الواقع كان عصيّا على هذه الفكرة الجديدة، فأزمة 26 جانفي 1978 وبالرغم من أنها أعطت للمصطلح مضمونا «عدوانيا» موجه تحديدا ضد حزب الدستور، فإنّها لم تمنع بعد مرور ثلاث سنوات على أكبر صدام دموي بين الاتحاد وحزب الدستور من بروز الكتلة التاريخية مجددا واستنساخها تجربة الجبهة القومية في انتخابات مطلع الثمانينات ولتقود 27 قياديا نقابيا إلى رحاب البرلمان .. التصدّع الخطير في العلاقة بين الطرفين و الشعور بعدم الثقة

والريبة بينهما، هو الّذي جعل القيادات النقابية الدستورية تسعى لكسب ودِّ ومساندة العائلات الفكرية والسياسية الأخرى وتتخلّى عن حليفها التاريخي .. وهو ما جعل أيضا الإتحاد يبتعد عن المشروع الوطني وينغلق على مهنيته مهيّئا شروط التحوّل من شريك سياسي فاعل إلى طرف إجتماعي يُوَظّفُ من حين لآخر في الحراك السياسي .. هذا التمشّي .. تمشّي الإستقلالية، جسّد تخلّي الاتحاد عن دوره التاريخي وتخلّيه عن الأدوار السياسية التي لعبها منذ تأسيسه وبقراره منع الازدواجية في تحمّل المسؤوليات النقابية والسياسية، في 10 جانفي 1978 فتح الباب لمناضلي التنظيمات السرّية لتحمل المسؤوليات النقابية في حين أغلقه في وجه الدستوريين، ربّما كانت تلك ضريبة العلنية التي دفعها حزب الدستور ليفقد رويدا رويدا تموقعه داخل منظمة كانت الحليف الأكبر والأوفى له .. لقد تطوّع الدستوريون لتصفية تواجدهم داخل المنظمة دون أن يُطْلَبَ منهم ذلك، وتخلّوا تدريجيا عن كافة المناصب القيادية في المنظمة لفائدة الوافدين الجدد.. ويكفي أن نذكّر باِرتقاء السيّد الطيّب البكّوش لتحمّل مسؤولية الأمانة العامة للاتحاد اثر مؤتمر قفصة سنة 1981 وهو القادم من أفق لا علاقة له بالحزب الدستوري..

حدث أن جدّت في العشريات الثلاث الأولى خلافات بين «الدساترة» عولجت أحيانا بلطف وأحيانا أخرى بنوع من العنف .. وأدّت إلى إقرار ممارسة لم تقنّن تقضي بعدم الجمع بين المسؤوليات الحزبية والنقابية .. الإجراء أعدّه «الدساترة» وطبقوه فقط على أنفسهم .. اِستقال عاشور و بوراوي والصالحي وغيرهم من حزب الدستور ولم يستقل غيرهم من تنظيماتهم لأنّ مسؤولياتهم لم تكن علنية .. ذاك الإجراء الخاطئ .. المتسرّع .. المتشنّج وغير المسؤول أضرّ بالإتحاد أيّما ضرر .. وأضرّ بالبلاد أكثر .. وبث بين النقابيين فكرة التفرقة .. وقطع الإتحاد عن تاريخه ليسلمه هدية لعائلات فكرية وسياسية لا علاقة لها أحيانا بالفكر النقابي...

اليوم وبعد انقضاء 39 سنة على ذلك القرار المزاجي الصادر عن المجلس الوطني للإتحاد المنعقد يومي 09 و10 جانفي 1978 لابد من مراجعته .. لابد من إعادة النظر فيه .. النقابيون مطالبون اليوم بالخروج من سجن الاستقلالية الوهمية التي فرضتها عليهم لائحة 10 جانفي وإعادة صياغة تحالفهم حسب مقتضيات الظرف الراهن. فالاتحاد مطالب اليوم بالربط مع مشروعه التاريخي .. مشروع بناء تنظيم الحركة العمّالية.

انسحاب الحركة النقابية العمالية من العمل السياسي المباشر كان إجراءً متسرعا ينقصه بُعْدُ النظر وها نحن نلمس نتائجه .. فما الاختلال في المشهد السياسي اليوم إلاّ إحدى نتائج ذلك التمشّي .. من السهل التحسّر على الماضي والبكاء على الأطلال .. لكن المطلوب اليوم من نقابيي الإتحاد العام التونسي للشغل هو الانكباب بجدية على الموضوع واستخلاص الدروس من تجربتهم المريرة على مدى أربع عشريات أو يزيد وضمان كافة الشروط حتى تتم العودة إلى مشروعهم التاريخي الذي تنازلوا عليه نتيجة حسابات خاطئة وسوء تقدير.. الوضع جاهز لعودة قوية للإتحاد صلب المشهد السياسي بما يضمن لا تعديل المشهد فحسب، وإنما بما يعطي دفعا كبيرا للمشروع الإصلاحي عموما، و يرسّخ قيم العمل والجدارة .. ليس من حق النقابيين اليوم مواصلة الإنسحاب من المعركة السياسية بدعوى استقلالية منظمتهم وإسقاط مشروعهم التاريخي مقابل وهم ..

لقد أثبتت الأحداث أنّ المقايضة التي وقع فيها الاتحاد والمتمثلة في الانسحاب من الشأن السياسي مقابل المحافظة على الإستقلالية التنظيمية، مقايضة خاسرة خصوصا بعد اختفاء الخطر الأكبر على الاستقلالية من المشهد السياسي تماما. لا أحد يمكن أن يهدد استقلالية الاتحاد أو يهمّشه، وحدها الاختيارات الخاطئة و السياسات الاعتباطية يمكن أن تهدد وجود المنظمة وتلحق الضرر بمكانتها.. وأكبر خطر يهدد الإتحاد اليوم هو الانغلاق و الإفراط في توظيف هاجس الاستقلالية التي أخرجت الاتحاد من اللعبة .. وفي تقديري فإن الإتحاد مطالب اليوم بتخطى الحاجز الّذي منعه دوما من الإنخراط في العمل السياسي مباشرة على شاكلة النقابات البريطانية والاسكندينافية .. لقد امتنع الاتحاد في الفترة الأولى من تأسيس الحركة العمالية، لأنه كان يرى في حزب الدستور ممثلا لتطلعاته وشريكا في أهدافه و اِستحال عليه ذلك في المرحلة اللاحقة رغم التلويح والتهديد لأنّ ميزان القوى لم يكن لفائدته واختفى المشروع وأصابه الضمور منذ سنة 1987 لعدم وجود الارادة و اقتصار العمل النقابي على الجوانب المهنية ..

اليوم وقد تغيرت المعادلة وأصبح الاتحاد مهددا في وجوده بفعل الإستقطاب القائم في الساحة السياسية والّذي يجعل من الأحزاب اليمينية سواء كانت ليبرالية أو دينية صاحبة الأغلبية المطلقة في الساحة بالإضافة إلى تحالفها الاستراتيجي .. فإنّ المعطيات تحتّم على النقابيين تمشيا جديدا .. ربما يدفعهم إلى تأسيس حزبهم والّذي كان في الأصل حلما من أحلامهم التي تبخّرت مع مرور الزمن ووجب اليوم تنزيلها في الواقع المعاش.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115