قلنا لو «سبّقنا» الخير لأن حكومتي الترويكا قد لعبتا في أحيان كثيرة دورا مزدوجا فهي تارة مشعل حرائق وطورا رجل مطافئ.
حكومة يوسف الشاهد، ككل سابقاتها، قد اصطدمت منذ الساعات الأولى لاستلامها السلطة بمشاكل تونس المتعددة والحارقة... ضربة إرهابية جبانة بالقصرين ثم تعطل كلي لاستخراج الفسفاط في الحوض المنجمي بقفصة فكارثة مرورية بالقصرين أصابت مائة مواطن ما بين قتيل وجريح فإعادة اكتشاف للحالة الرثة لبنيتنا التحتية ولمنظومتنا الصحية...
وهذا كله في 48 ساعة.. ولا ينبغي أن يكون المرء قارئ فنجان ماهرا ليدرك منذ الآن أن هذه بدايات وأن المشاكل والمصائب والاحتجاجات سوف تتصاعد وتيرتها خلال الأيام والأسابيع القادمة...
ما يُخشى على هذه الحكومة، كما سابقاتها، هو الارتباك أمام مشاكل تونس الكبيرة على حدّ تعبير النائب عن كتلة الحرّة مصطفى بن أحمد...
لو سجنت الحكومة نفسها في مربع متابعة المشاكل المستجدة لتتالت الأيام والأسابيع والأشهر دون أن تقوم بأي إصلاح يذكر... والقدرة على الاستباق تعني رسم طريق للإصلاح والذهاب فيه بأقصى سرعة دون التردد عند أول اعتراض أو صدّ...
مداخل طريق الإصلاح اليوم في تونس واضحة وجلية ينبغي طرقها الآن دون تأخر.
• المدخل الأول هو وضع كبار بارونات الفساد والتهريب في مكانهم الطبيعي: أي وراء قضبان السجون.
• المدخل الثاني هو فرض ضريبة استثنائية قد تكون مؤقتة في الزمن على أصحاب الثروات المنقولة وغير المنقولة.
• المدخل الثالث هو مواصلة الإصلاح الجبائي قصد توسيع دائرة المطالبين بالضرائب وتوزيع عادل لها وتجريم جدي وفعلي للتهرب الكلي والجزئي منها..
• المدخل الرابع هو الدخول في مفاوضات جديدة مع الطرفين الاجتماعيين الأساسيين (اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة) قصد إيجاد الحلول الضرورية للحدّ من التفاقم غير المدروس لكتلة الأجور وللعجز الكارثي للصناديق الاجتماعية ولمعالجة جماعية للوضعيات المختلفة للمؤسسات العمومية...
وتكمن أهمية المداخل الثلاثة الأولى للإصلاح في إقناع الجميع بأن إنقاذ البلاد يتطلب فعلا تقاسم التضحيات وأن هذا التقاسم لن يكون على حساب الشغالين وضعاف الحال بل هو جهد وطني يعطي فيه الكل حسب إمكانياته...
فلا مجال اليوم في تونس لمن لا يدفع الضرائب أو يتهرب منها ولا مجال لمن يريد التشبث بمكاسب فئوية ترهق إمكانيات الدولة ولا تسمح لها بالقيام بدورها الأساسي اليوم وهو الشروع في التنمية العادلة لكل جهات البلاد مع تمييز إيجابي واضح للولايات الأربع عشرة (زغوان وباجة وسليانة وجندوبة والكاف والقيروان وسيدي بوزيد والقصرين وقابس ومدنين وتطاوين وقبلي وتوزر وقفصة).
هذه في تقديرنا بوصلة الحكومة الجديدة والتي لا ينبغي أن تحيد عنها قيد أنملة وهي بوصلة لا تخص رئاسة الحكومة وحدها بل كل الوزارات معنية بها وهذا الانسجام في المنهج هو الضامن الوحيد لانسجام الفريق الوزاري وتضامنه عندما تتحرك كل اللوبيات والقوى التي تخشى الإصلاح وسلطة القانون والحق...
والإصلاح العميق والجدي لا ينبغي له أن يخشى التكلس الإيديولوجي الغالب على بعض نخبنا.. فتونس اليوم تحتاج إلى إصلاحات كبيرة بعضها قد يوصف باليساري بل وبالراديكالي كفرض ضريبة جديدة على الأثرياء وكتدخل الدولة لخلق الثروة المنتجة مباشرة للشغل وبعضها قد يوصف بالليبيرالي بل وبالموغل في الليبيرالية كتوفير كل الدعم للمؤسسة الاقتصادية وخاصة منها تلك التي تعمل في المناطق الداخلية أو تنافس على افتكاك أسواق خارجية جديدة وأن تنأى الإدارة بنفسها عن دور الرقيب المرتاب وأن تكتفي في جل الحالات بالمراقبة البعدية في إطار عقد ثقة مع المؤسسة الخاصة... وبعضها ينتمي إلى نظرة جديدة للعدالة الاجتماعية قوامها خلق طبقة جديدة من نساء ورجال الأعمال المنحدرين من الفئات الاجتماعية الهشة أو الشعبية في إطار تشغيل مصعد اجتماعي من صنف مغاير وإصلاحات أخرى عمودها الفقري خلق شروط التفوق والتميز لأكبر عدد ممكن من أبنائها عن طريق إخراج مدرسة الجمهورية من الروتين الذي كاد يقتلها ويقتل كل موهبة داخلها.. وكل ذلك دون نسيان واجب التضامن بين الجنسين والأجيال والجهات...
وهذه الإصلاحات، وغيرها، تتطلب من الفاعلين السياسيين والنقابيين والاقتصاديين والإداريين مراجعة جذرية لترسانة المفاهيم والممارسات التي عاشوا عليها خلال العقود الماضية...
فتونس كذلك المريض الذي يشكو من أمراض مزمنة متعددة.. فشفاؤه لا يكمن فقط في معالجة كل تلك الأمراض وأعراضها بل وأساسا في إعادة الحيوية والنشاط لذلك الجسم حتى يعود أقوى وأصلب من ذي قبل...
تلك هي بعض مداخل الإصلاح الضرورية حتى لا نتيه في غابة الروتين اليومي وطاحونة الشيء المعتاد...