كتلة الأجور والدعم والتحويلات للمؤسسات العمومية ولكن لم تجرؤ أية حكومة إلى حدود سنة 2021 على تنزيل هذه «الإصلاحات « على ارض الواقع مخافة من انفلاتات اجتماعية غير محسوبة العواقب ..
ولعل من مفارقات الزمن أن تقوم حكومة الإجراءات الاستثنائية أي الحكومة الأكثر «ثورية» نظريا إلى التطبيق الأشمل لكل هذه الإجراءات قصد جلب ودّ صندوق النقد الدولي الذي أضحى نافذتنا الوحيدة من أجل الاقتراض المعقول نسبيا رغم التدحرج المستمر لترقيمنا السيادي ووصوله إلى مرحلة «ج» أي المخاطر المرتفعة جدا .
استباقا لاتفاق ممكن مع صندوق النقد الدولي شرعت حكومة نجلاء بودن منذ بداية هذه السنة في تطبيق بعض «الإصلاحات» أوضحها الآن الترفيع الشهري في سعر المحروقات بنسبة %3 في كل مرة ..ولكن رغم تواضع هذه النسبة فإنها ستؤدي بنا إلى سعر البنزين الرفيع الخالي من الرصاص إلى 2870 مليما في آخر هذه السنة بعد أن كان في حدود 2095 مليما في نهاية السنة الفارطة أي بزيادة %37 على امتداد سنة واحدة.
لن تكون الزيادات في كل أسعار المحروقات – باستثناء الغاز المسال المنزلي – الوحيدة بل سيرافقها ارتفاع مهم (لا نعلم قيمته بالضبط) في معاليم الكهرباء والغاز للاستهلاك المنزلي كما للاستهلاك الصناعي ولن تستثنى من هذه الزيادات إلا الشريحة الدنيا بالنسبة للاستهلاك العائلي ..
غني عن القول بان الترفيع الكبير في أسعار المحروقات والكهرباء والغاز سينجر عنه حتما ترفيع هام في أسعار نقل الأشخاص والبضائع وكلفة الإنتاج الصناعي والفلاحي والخدماتي وتلك الحلقة المفزعة المعروفة من اللهاث وراء قدرة شرائية متراجعة وتضخم سيتجاوز لأول مرة منذ حوالي الأربعين سنة عتبة %10 .
وهذا سيدفع بدوره البنك المركزي للترفيع المتكرر لنسبة الفائدة المديرية بما يعسّر بشكل كبير شروط الاقتراض للعائلات وللمؤسسات على حد سواء.
كل هذه الإجراءات كانت مبرمجة منذ نهايات سنة 2021 وبعضها مضمن في مرسوم / قانون المالية للسنة الحالية ولكن حينها كانت الفرضية الأساسية 75 دولارا للبرميل ..أما الآن وبحكم غزو روسيا لأوكرانيا فقد تجاوز سعر البرميل الواحد للنفط 110 دولارا وبما أننا أمام حرب تفيد كل المؤشرات أنها ستكون طويلة فهذا يعني حتما ارتفاعا هاما في أسعار النفط والحبوب أي أننا أمام صعوبات جديدة لم نقرا لها حسابا .
لقد أقدمت حكومة بودن على تمرير شبه سري لهذه الإجراءات في ظل غياب تام لكل مصارحة أو حوار أو توضيح إجمالي للمآلات ودون أن تكون لها أية ضمانات لإمكانية عقد اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي نظرا لرفض الشريك الاجتماعي الأساسي ،اتحاد الشغل ،جوانب كبيرة من البرنامج الحكومي إذ أن فيه علاوة على كل ما قلنا بداية الرفع التدريجي للدعم عن المواد الأساسية في سنة 2023 مع تجميد للانتدابات وللأجور في الوظيفة العمومية إلى حدود سنة 2025..
نحن لا نعتقد بصواب من يقول أن حكومة بودن لا يمكنها الشروع في إصلاحات هيكلية لا إيمانا بقدرة هذه الحكومة أو بشرعيتها بل لان البلاد لا يمكنها انتهاج طريق عدم الإصلاح فهنالك إجراءات إنقاذية عاجلة يكون تأخيرها إجراما في حق البلاد ولكن هذا يفترض ضرورة حوارا اجتماعيا وسياسيا شاملا حول كل الاختيارات الجوهرية للبلاد..
هنالك إجراءات إنقاذية ضرورية للتوازنات المالية الدنيا للدولة ولكن هنالك أيضا اختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية تسمح بخلق الثروة واستحثاث نسق النمو ومقاومة البطالة وهذان المستويان ضروريان لكل تصرف رشيد في المال العام وفي إدارة شؤون البلاد ..
هل أن للحكومة تصورا لإنعاش فعلي لاقتصاد البلاد ؟ لسنا ندري لأننا لسنا أمام خطاب – مجرد خطاب – واضح في هذه المسائل ..نحن نعلم فقط أن «الصلح الجزائي» هو سدرة المنتهي للنهوض بالاقتصاد عند السلطة الحالية ثم نرى ممارسات يومية للدولة تجعلنا نشك أيما شك في توفر الحد الأدنى من الرؤية الاقتصادية لديها .
عندما نعلم أن مجلسا وزاريا مضيقا قرر اللجوء إلى طلب عروض دولي لطباعة الكتب المدرسية التونسية بحجة الارتفاع غير المبرر للكلفة من قبل المطابع الكبرى التونسية نقول أن هنالك شيئا ما لا يشتغل بتاتا في العقل الذي يسير هذه البلاد ..
لا نريد الدخول في تفاصيل هذه القضية أو في تلك الشعارات المضحكة المبكية لبعضهم والتي ترى أن حرمان المؤسسات التونسية من سوق طباعة الكتاب المدرسي إنما هو ضرب للاقتصاد الريعي !! نعم هكذا !!
الفكرة بسيطة وبسيطة للغاية : كيف ننشط الاقتصاد الوطني ونضمن ديمومة مختلف قطاعاته في انتظار أن تنتعش وأن تستثمر وأن تشغّل وأن تصدّر؟
ما تملكه الدولة بصفة فورية هو أن تخصص كل ميزانية الاستثمار – وهي قليلة– للمؤسسات التونسية فقط لا غير ..
في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة يكون إنفاق دينار واحد من ميزانية الدولة على مصانع آسيا وأوروبا ضربا من ... (لم ولن نجد الكلمة المناسبة لمثل هذا الصنيع ).
نحن مضطرون للمناقصات الدولية عندما يكون التمويل أجنبيا ولكن كيف يجوز لمن يحكم البلاد أن يفكر في إنفاق المال العام على مواطن شغل خارج البلاد ؟ لو تعلق الأمر بما يستحيل صنعه في تونس لهان الأمر ولتفهمنا الدواعي اما أن يتعلق الأمر بأزياء عسكرية بالأمس القريب أو بالكتاب المدرسي اليوم فذلك عين..
كيف يمكن لحكومة تدعي العمل على إصلاح الاقتصاد أن تفكر بهذه الطريقة والحال أن خورها واضح لكل عقل سليم ..ومادام العقل غائبا في البديهيات فكيف يا ترى سيكون حاله في الإصلاحات المعقدة والإستراتيجية ؟ !
تونس بين «الإصلاحات» المفروضة والخيارات المجهولة
- بقلم زياد كريشان
- 10:45 03/03/2022
- 1071 عدد المشاهدات
نتحدث في تونس عن «الإصلاحات الموجعة» منذ سنة 2014 على الأقل ونقصد بها عامة التحكم أو التقليص في الإنفاق العمومي من بوابات