أشياء كثيرة مهمة في كل آن وحين ولكن من لا يميّز بدقة ووضوح بين الأهم والمهم تختلط عليه السبل ولا يقدر على رسم الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق النتائج المرجوة خاصة إذا ما تعلق الأمر بالمصالح الإستراتيجية للبلاد ..
يمكن أن ننقد الاتحاد العام التونسي للشغل في مسائل كثيرة بعضها يتعلق بتسييره الداخلي وبعضها الآخر مرتبط باستراتيجيات التفاوض الاجتماعي وتكتيكاته ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل ومنذ تأسيسه حرص على المحافظة على البوصلة الوطنية وعلى التمييز الدقيق بين الأهم والمهم وقام،كلّما استوجب الأمر ، بالتنازلات الضرورية أو بالتصدي للسياسات الخرقاء حفاظا على مصالح الطبقة الشغيلة وعلى البلاد في ذات الوقت ..
اليوم وبعد إتمام مؤتمره الأخير وإفرازه لقيادة نقابية جديدة برئاسة أمينه العام نورالدين الطبوبي يجد الاتحاد نفسه محط كل الأنظار والانتظارات : البلاد في أزمة معقدة وخانقة سياسيا وديبلوماسيا واقتصاديا رغم الخطاب الانتصاري للسلطة الحالية ، وضع يستوجب الحنكة والصبر والترجيح السليم بين مختلف الأولويات .. وضع يجد الاتحاد نفسه مضطرا للعب الأدوار الأولى لتجنب المزالق والمهالك وللتقليص قدر الإمكان من الآثار السلبية لهذه الأزمات المتفاقمة والمتراكمة.
المعادلة سهلة وصعبة في نفس الوقت : الوضع المالي للدولة حرج للغاية وبدأت آثاره تلقي بظلالها على القدرة الشرائية للمواطنين وعلى التزود ببعض المواد الأساسية .. وضع سيزداد سوءا إذا لم تتمكن الحكومة في الأسابيع القليلة القادمة من عقد اتفاق ممدد جديد مع صندوق النقد الدولي مع ما يعنيه ذلك من إجراءات فورية ستزيد بالضرورة في الإضرار بالقدرة الشرائية لفئات واسعة من المواطنين .
على عكس أحزاب ومنظمات عديدة يدرك الاتحاد أن هذا الاتفاق حيوي للبلاد وانه يستحيل علينا الخروج من هذا المأزق الخانق للمالية العمومية دونه وأن الإصلاحات الضرورية التي ستجعلنا في غنى عن التداين الخارجي لن تؤتي أكلها – هذا إذا ما انخرطنا فيها منذ الآن ، إلا بعد سنوات وأن ضمان الحدّ الأدنى من النشاط الاقتصادي ومن ظروف حياة المواطنين يتطلب حلولا عاجلة من بينها ثقة الأسواق المالية والاستثمارية في الوجهة التونسية، لهذا عنوان واحد لا ثاني له وهو صندوق النقد الدولي ..
في نفس الوقت الاتحاد ليس مرتاحا للوجهة السياسية الحالية للبلاد وهو ولئن أكد في مؤتمره الأخير على انخراطه في لحظة 25 جويلية إلا انه أكد على رفضه للنزعة الانفرادية للرئيس قيس سعيد وأن تونس تتسع لجميع أبنائها وان الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للبلاد – شرط الاقتسام العادل للأعباء وللتضحيات – لا يمكن أن تنجح دون تشاركية واسعة سياسية واجتماعية ودون توفير شروط البقاء في ديمقراطية تعددية فعلية تلعب فيها الأحزاب السياسية دورا أساسيا .
ولم يكتف اتحاد الشغل بهذا التوصيف للوضع ولسبل تجاوز الأزمة بل أكد على لسان أمينه العام انه سيعمل بكل قوة وسينزل بكل ثقله لكي تسلك البلاد هذه الطريق السالكة الوحيدة .
تبقى بطبيعة الحال أسئلة عديدة يتعلق بعضها بأشكال الضغط الممكنة والتي قد تلجا إليها المركزية النقابية لتحقيق هذا الهدف الوطني كما يتعلق البعض الأخر باستعداد السلطة السياسية،أي رئيس الدولة، للتخلي عن الانفرادية المفرطة وعن هذا المشروع السياسي الهلامي المسمى بالبناء القاعدي والذي قد يأتي على ما تبقى من عناصر الفاعلية في اقتصادنا الوطني وفي الدولة التونسية .
العدو الرئيسي لتونس اليوم هو الزمن والخطر الداهم هو الاستثمار في تمطيطه وتأجيل الحلول الجماعية الضرورية توهما بأن «الانتصار» آت في نهاية المطاف ..
كل يوم ،بل كل ساعة نضيعها على البلاد هي مساهمة في هذه الكارثة القادمة على عجل.