في كلّ بلدان العالم، وهو عنف يستهدف النساء والفتيات لأنّهن نساء/«زريعة إبليس» «أفاعي»... إنّه عنف معبّر عن كره بغيض يصل إلى حدّ التفنّن في ممارسة التعذيب والتلذّذ بمعاناة الضحايا وصولا إلى القتل.
ترفض النساء سياسات التصميت، وتهميش ملّف العنف فيخرجن إلى الفضاء العامّ ليجسّدن حضورهنّ الملفت للنظر ويبتكرن أشكالا متنوّعة من المقاومة وتعبيرات جسدية مختلفة تدلّ على «الغضب الساطع». فنجد الرقصة الجماعية المشفوعة بكلمات أغنيّة توجّه أصابع الاتهام إلى صاحب السلطة الفعليّة والمؤسسة الأمنية وغيرها من الأطراف المتواطئة، ونجد قرع الطبول، ورفع المكانس وإحداث الضجيج باستعمال الأواني المطبخية... كلّ ذلك من أجل إسماع «من به صمم».
اختارت التونسيات هذه السنة، وفي إطار ال16 يوما لمناهضة العنف المسلّط عليهنّ، الخروج في المسيرة الصامتة التي تنظّمها الديناميكية النسوية رافعات مجموعة من الشعارات لعلّ أهمّها «لا للعنف ضدّ النساء»، وهو شعار مرتبط بالحملة التي أقرّتها هيئة الأمم المتحدة التي تنصّ على أنّ العنف القائم على النوع الاجتماعي وإن كان شديد الانتشار فهو ليس حتميا ويمكننا منعه، بل يجب منعه.
وتتمثّل أوّل خطوة لإيقاف هذا العنف، في وجوب تصديق الناجيات، واعتماد خطط شاملة لمعالجة الأسباب الجذرية وراء ذلك كالتصدّي للتنشئة الاجتماعية المعتمدة على التقاليد والعادات والأعراف المكرّسة للتمييز والبرامج التعليمية والثقافية والإعلامية المرسّخة للصور النمطية ودونية المرأة والمشجّعة على مراقبة النساء و«تأديبهن» والسيطرة على حيواتهنّ. يُضاف إلى ذلك العمل على تمكين النساء والفتيات وتوفير الخدمات الأساسية للناجيات عبر مختلف القطاعات الأمنية والعدلية والصحية والاجتماعية، وتخصيص التمويلات الكافية للإيفاء بأجندة حقوق النساء، حتى يمكننا الحدّ من ظاهرة تزداد خطورة يوما بعد آخر، وهي لا تستثني أية امرأة: شابّة أو مسنّة، سليمة أو من ذوات الاحتياجات الخصوصية، ميسورة الحال أو فقيرة، متعلّمة أو أميّة، صاحبة موقع قرار أو تابعة لرجل يتحكّم في قراراتها .. ولذلك كان العنف القائم على النوع الاجتماعي في نظر النساء، وباء أشدّ خطورة من وباء كورونا، ومسألة ذات وشائج بالأمن القومي.
ويتجاور مع الشعار الأولّ العالميّ شعار محليّ حرصت الناشطات الحقوقيات على إبرازه وهو: «صمت الدولة يقتل النساء»، المتنزّل في إطار السياق الذي نمرّ به. فإذا كان هرم السلطة قد أعلن عن رغبة في الإصلاح وتحقيق «العدل» والكرامة وحفظ الحقوق، وأوّلها حفظ حقّ النفس فإنّ هذا المسار لم يعكس إرادة السياسية للتصدّي لظاهرة العنف الذي يستهدف النساء والشابات بحيث صارت تونس في نظرهن ،بلدا غير آمن.
وبناء على الوعي «بتراخي» مختلف مؤسسات الدولة، وأوّلها المؤسسة الأمنية التي صار بعض المنتمين إليها يمارسون العنف (الخطف، القتل، التعذيب...) ويستهدفون الشابات في الاحتجاجات، وعدم توفير الحماية اللازمة للناجيات ووضع إجراءات عملية للتسريع بمسار التحقيق والتقاضي وتوفير مراكز الإيواء وبرامج التأهيل النفسي والتمكين الاقتصادي الخاص بهنّ فإنّ القناعة الراسخة لدى أغلب التونسيات أنّ الدولة مسؤولة عن تصاعد وتيرة العنف واستفحال كلّ مظاهره وأنّه آن أوان مساءلتها.
ولعلّ المفارقة تكمن في أنّ النظام السابق كان يسعى إلى تصميت النساء غير المعبّرات عن سياساته والحدّ من صمودهن فإذا بهنّ ينضممن إلى المسار الثوري ويتمكّنهن من امتلاك الصوت وفرض إرادتهن. وفي اللحظة التي برزت فيها أصوات النساء المدويّة اختارت الدولة أن تصمت وأن لا تحدّق في الواقع وأن لا تصنّف حماية النساء ضمن أولاويتها. وشتان بين بلاغة صمت النساء في المسيرة الاحتجاجية وصمت الدولة القاتل.
إنّ دولة تتنصّل من مسؤولياتها السياسية والقانونية والأخلاقية وتعبث بحيوات النساء والفتيات وتغضّ الطرف عن حوادث القتل والترويع والخطف والتعذيب... دولة تستهين بحق التونسيات في الحياة.