وأنها ستمكننا من إعادة التأسيس وفق مقتضيات العلم والعمل والعدل في كل شيء، لكن تبخرت أحلامنا وأوهامنا لأننا انتخبنا حكاما كانت هذه المقتضيات آخر اهتماماتهم .
عندما نسعى لفهم ما حصل ويحصل في بلادنا منذ هروب بن علي إلى حدّ اليوم نُصدم بمفارقة غريبة : بلادنا تملك كل المؤهلات لتحقيق القفزة النوعية المرجوة ولكننا لم ننتخب قطّ من يملك القدرة على هذا الإنجاز ولعل مردّ ذلك استعجالنا الجماعي لقطف ثمار رخاء لم نوفر له أدنى شروط إمكانه ذلك أننا انتخبنا – في الأغلب الأعمّ – باعة الأوهام والمتهافتين على الحكم دون أدرى دراية – ولو نظرية– باكراهاته وبتحدياته..
انتخبنا هواة متأدلجين زمن الترويكا (على حدّ عبارة المؤرخ التونسي فتحي ليسير ) ثم طلاب سلطة ومصالح فشعبويين دون أفق ودون حلول لمشاكل البلاد والعباد..
لقد ظنّ جلّنا – مرّة أخرى – أن 25 جويلية سيمثل نقطة تحول هامة لإصلاح هذا الوضع الغريب ..لكن كان واضحا -لبعضنا على الأقل- أن 25 جويلية والقراءة المتوسعة للغاية لمقتضيات الفصل 80 من الدستور إنما هي لحظة إضافية في هذا المسار السيء الذي انتهجته بلادنا منذ الثورة والذي يمكن أن نوصّفه كذلك بأنه مسلسل الثقة العمياء في حكام لا يملكون حلولا للبلاد ثم الانقلاب عليهم ووضع الثقة العمياء في حكام آخرين هم بدورهم لا يملكون حلولا للبلاد .
إن سياسة التمكين التي عمدت إليها مختلف الأغلبيات التي تداولت على حكم البلاد إلى حدّ اليوم بقيت هي في جوهرها إذ لم تتغير سوى الشعارات وطريقة اقتسام الكعكة أو الاستئثار بها ونوعية التيارات والأشخاص المستفيدين منها ..
نحن بصدد الاكتشاف أن معاداة الأحزاب والنخب «التقليدية» لا تفرز تصورا جديدا للحكم وللسياسة بل مواصلة لحكم الأحزاب بطريقة أكثر فجاجة قوامها الولاء المطلق للزعيم ولمشروعه أما الكفاءة والقدرة على حلّ المشاكل فتلك صفات لا يبدو أننا بحاجة إليها ..
ما الذي يمكن أن نقوله عن التعيينات الجديدة في صفوف الولاة سوى أنها مواصلة وتعميق لسياسات الترويكا وأخواتها : التمكين ولا شيء غير التمكين بوضع الموالين في المناصب الحساسة والإستراتيجية للدولة دون اعتبار – ولو جزئي – لمعياري الكفاءة والقدرة .
الكفاءة القيادية لا تعني الإلمام بكل شيء بل تعني –فيما تعني – القدرة على الإحاطة بأفضل الكفاءات التقنية والسياسية والنظرة الشاملة لماضي وحاضر ومستقبل البلاد وهذا لا يمكن أن يحصل عند المتأدلجين أيّا كانت اختياراتهم ومناهجهم لأن التأدلج يحجب الواقع الفعلي عند صاحبه ويدفعه إلى خوض مغامرات دونكيشوتية لا علاقة لها بالمشاكل الفعلية للبلاد والعباد.
يعتقد المؤدلج أن مهمته هي بناء الجنّة (أرضية كانت أم سماوية ) وانه غير معني لا بالمشاكل الملموسة ولا بالتحسينات الجزئية ولا بوضع التصورات الإستراتيجية لتحقيق مستقبل أفضل ،لذلك يحيط المؤدلج نفسه بمن يبارك صباحا مساء ويوم الأحد هذه الأوهام الإيديولوجية ويعمل على تعميقها لأنها ستكون في نهاية المطاف مصدر رزقه الوحيد.
ولكن الواقع المادي أقوى وأعتى من كل الأوهام الإيديولوجية فتونس لا تملك ثروات طبيعية طائلة وهي ليست غنية وثروتها الوحيدة تكمن في اجتهاد بناتها وأبنائها وعملهم وهي تحتاج اليوم إلى مناخ ثقة في الاستثمار وفي العمل والى مضاعفة الجهد والخروج النهائي من ثقافة التواكل وهذا يستوجب قيادة عقلانية وبراغماتية في كل مفاصل الدولة ويستوجب أيضا مشروعا وطنيا جامعا للإنقاذ أولا وللنهوض ثانيا وهذا يستوجب التحرر من كل الأوهام الإيديولوجية لهذه العشرية بدءا بالأسلمة الناعمة أو العنيفة وصولا إلى البناء القاعدي مرورا بكل استراتيجيات التمكين.
وحدها الديمقراطية الواعية بشروطها وبحدودها قادرة على خلق النهوض.
هل يعي الحكام الجدد هذه الحقيقة؟
ذلك هو السؤال!
معضلات تونس الكبرى: العقلانية والبراغماتية والكفاءة !
- بقلم زياد كريشان
- 09:51 01/12/2021
- 1322 عدد المشاهدات
اعتقد – أو توهّم – جلّنا أن الثورة التونسية ستكون الفرصة التاريخية لبلادنا لانطلاقة فعلية نحو التقدم والرخاء الجماعي