وعادة ما يُساء فهمه خاصة عندما نتحدث عن انتصار انتخابي ، فالتفكيك العقلاني لآليات الانتصار ومن ثمة مواطن الوهن والضعف عملية تحتاج إلى بعد نظر وبرودة قلّما يتوفران عند المنتصرين ..
لم تخرج الحركة الإسلامية عن هذه القاعدة فاغترت بانتصارها في أكتوبر 2011 ورغم انتكاساتها النسبية في 2014 حين تقدم عليها النداء وبعد ذلك في الدور الأول لرئاسية 2019 حيث خرج مرشحها من الدور الأول ولكن تقدمها في بلديات 2018 وأيضا في تشريعية 2019 رغم التراجع الكبير في حجم ونسبة التصويت وعاد شيء من الزهو والغرور وخاصة سوء فهم التقدم النسبي وحدود الإشعاع السياسي لحركة النهضة فتدعم الاعتقاد عند القيادة وعند دوائرها المقربة السياسية والعائلية بأن الشعب التونسي قد فوض الحركة الإسلامية ورئيسها لقيادة البلاد رغم هزيمتها المدوية في الرئاسية ، وأن رئاسة مجلس نواب الشعب ستسمح لمؤسس حركة النهضة بالتحكم في كل خيوط اللعبة تنظيميا وبرلمانيا وحكوميا .. وأن قدرة التحكم هذه وما يتبعها من منافع مادية وأدبية ومن قدرة على الإغراء و«الغواية» سيجعل من حركة النهضة «العمود الفقري» لكل شيء في البلاد كما كان يقول ذلك قادتها منذ سنة 2011..
ما لم تدركه حركة النهضة أن غالبية الشعب التونسي لا تثق في قياداتها حتى في زمن القوة والانتصار الباهر في أكتوبر 2011.. فالحركة الإسلامية قوية نسبيا بالنظر إلى العرض السياسي المطروح في كل مرحلة ولكن زعاماتها التاريخية والجديدة لا تحظى بنفس المقبولية بل عادة ما تثير التوجس والخوف مما يُعتقد أنه الخطة الدفينة للحركة الإسلامية للاستيلاء على الدولة والمجتمع في آن.
ولكن الخطأ الاستراتيجي القاتل للحركة الإسلامية بعد الانتخابات العامة في خريف 2019 هو عدم اداركها لكم الرفض الشعبي الذي يتعلق بها وبقياداتها الأساسية وخاصة رئيسها ومؤسسها راشد الغنوشي .
أن تتحصل على ما دون %20 من الأصوات وبنسبة مشاركة في التصويت بـ%40 من مجموع المسجلين لا يعني ضرورة أنك انتصرت خاصة عندما نعلم أن نسبة الارتياب من حركة النهضة والرفض المطلق للتصويت لها، هو دوما في حدود نصف التونسيين وفق كل عمليات سبر الآراء التي نقوم بها بالتعاون مع مؤسسة سيغما منذ سنة 2014 على الأقل وان نسبة الرفض المطلق لراشد الغنوشي تتجاوز في جل عمليات سبر الآراء %70 من التونسيين..
عدم إدراك هذه الحقائق الذهنية البسيطة ومحاولة تحويل تحالف برلماني انتهازي من أجل الفوز بالرئاسة أولا ثم تحويل رئاسة البرلمان إلى ما يشبه رئاسة البلاد والإعلان المستفز والمستمر عن انخراط في محاور إقليمية واستدعاء مطرد للصراع الإماراتي القطري على الأرض التونسية بما في ذلك عملية طلب سحب الثقة من رئيس البرلمان والتي ترى فيها قيادات نهضوية بارزة «مؤامرة» إماراتية بأموال ضخمة (بالطبع دون أي إثبات) لإدخال البلاد في «حالة فراغ دستوري».. بينما الوضعية اليوم اسهل بكثير من كل هذا :
لقد فقدت النهضة ورئيسها كل أوراق المناورة السياسية القادرة على جلب منافع (عبر المحاصصة الحزبية) أو دفع ضرر ما بما يجعل الكتلة الأولى في البرلمان ورغم الدعم الكلي لها من قبل ائتلاف الكرامة في وضعية عزلة سياسية تامة خاصة إذا ما تخلى عنها حليفها «المؤقت» قلب تونس ..
واليوم ستعرف حركة النهضة بالضبط مدى حقيقة حجمها البرلماني ومدى حدود قدرتها على المناورة. والرهان هنا ليس فقط تحصيل أغلبية مطلقة لفائدة سحب الثقة أي 109 نائبا فما فوق ، الرهان السياسي هو أيضا في الأغلبية النسبية التي يمكن أن يحصل عليها أي طرف من الأطراف ..
لو صوت أكثر من 109 نائبا على عريضة سحب الثقة انتهى الأمر وانتهى راشد الغنوشي سياسيا كذلك، أما لو كان العدد دون ذلك مع أغلبية نسبية صوتت لسحب الثقة يكون الأمر قد حسم أيضا سياسيا إذ لا يمكن تصور بقاء رئيس للبرلمان ترفضه أغلبية نسبية للنواب ولا تدافع عنه إلا أقلية قد لا تتجاوز الثلث..وحينها هنالك طريق وحيدة لحفظ ماء وجه الجميع: استقالة رئيس البرلمان وتفاوض جدي بين كل الكتل على اختيار شخصية وفاقية لبقية الفترة النيابية .
اليوم يخوض راشد للغنوشي معركته السياسية الأخيرة فإما أن يفوز بها – بإيجاد أغلبية لفائدته – والبناء عليها للبقاء على رأس النهضة في مؤتمرها القادم أو الهزيمة الكلية أو النسبية وحينها يكون قد خرج بالكلية من حسابات السياسة بعد عشرية كاملة من النفوذ القوي وشبه المطلق أحيانا في البلاد .
اليوم عريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان المعركة الأخيرة (؟) لراشد الغنوشي !
- بقلم زياد كريشان
- 09:00 03/08/2020
- 1797 عدد المشاهدات
أحيانا يكون استخلاص العبر من الانتصار أعسر بكثير من ذلك الذي يخلف هزيمة..فالانتصار يخلّف دوما شيئا من الحماسة المفرطة والغرور والاستعلاء