التي تهدّد سلامتهم الصحيّة بنصيب من العقلانية. ورغم هذا الجهد المبذول لتنزيل هذه «الجائحة» في إطارها العلميّ لم يفوّت الدعاة والأئمة والقادة الدينيون الفرصة للظهور في المشهد الإعلاميّ مقدّمين شروحهم ونصائحهم التي تنهل من معين شكّله الفكر الميثيّ والفكر الغيبي، وتستند إلى 'سرديّة المؤامرات التي تحاك ضدّ المسلمين». فحسب الشيخ الدكتور أحمد عيسى حسن المعصراوي المصري فالوباء هو «عقاب إلاهيّ» عن المعاصي، والمجازر التي ارتكبت في الصين بشأن المسلمين «اللايغور» وما ربك بظلام للعبيد» ويتجاهل «الشيخ» أنّ الفيروس انتشر في البلدان العربية كالسعودية وقطر...فهل سيجرؤ على القول: إنّ الإله الجبّار ينتقم من هذه الدول أم أنّ هذا التفسير لا ينطبق إلاّ على «الكفار»؟ هكذا يستغلّ الناطقون نيابة عن الله الموقف للتموقع باعتبارهم أصحاب سلطة. فهم القادرون على التأثير في الجموع ولذلك يستغلّون المنابر، والتدوينات الفايسبوكية وغيرها من الوسائط للترهيب من يوم الحشر، والحديث عن عذاب القبر و...
إنّ ما يسترعي الانتباه في تعامل المسلمين مع الكوارث والأوبئة هو التأرجح بين الخطابات الطبيّة والتفسيرات الميثيّة التي تتذرّع بسلطة الدينيّ، وهو أمر لا نعاينه في الحياة اليومية لعامة الناس فقط بل ينعكس على سياسات الحكومات. فقد رفض الرئيس الباكستاني عارف علوي الحاصل على درجة الدكتوراه في طبّ الأسنان، إعادة الطلاب الباكستانيين الذين يدرسون في الصين موظّفا حديثا رواه البخاري ومسلم برواية عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه».
وبالرجوع إلى آخر القرارات الصادرة مثلا في المملكة المغربية وتونس نتبيّن تعمّد كلّ حكومة تكريس سياسة الفرز بين الأنشطة الثقافيّة والرياضيّة التي يجب أن تتوقّف على الفور، والأنشطة الدينيّة التي لا يمكن تعطيلها بدعوى عدم «استفزاز المصلّين» بل يذهب بعضهم إلى تبرير استمرار إقامة صلاة الجمعة بأنّه من ‹التدابير الوقائية› إذ يتعيّن على الإمام تخصيص وقت للدعاء الجماعيّ إذ «يجبُ الإكثار من الدّعاء والذّكر حتّى يجنّبنا الله الآفات والمصائب».. وهنا ندرك مدى التباس السياسيّ بالدينيّ في التعامل مع الأزمات التي تحدثها الأوبئة والكوارث إذ تظلّ الحسابات السياسية ومراعاة موازين القوى وردود فعل الأحزاب ذات المرجعيّة الدينية مهيمنة على صنّاع القرارات حتى وإن كان الثمن التضحية بالمصلحة العامّة وصحّة المواطنين.
ولكن إلى متى تغيب الإرادة السياسية وتستمر سياسات «اليد المرتعشة» في بلد عرف حالة «انفلات بيوت العبادة» وتحوّل عدد منها إلى وكر للجماعات المتشددة والمسلحة وخروجها عن سيطرة الدولة؟ وهل بإمكان وزارة الشؤون الدينيّة أن تمنع عددا من الأئمة من ممارسة التجهيل القصدي كأن يزعم أحدهم أنّ الكورونا هو «تنبيهٌ من الله» إلَى أنَّ الأمَّة ليسَتْ علَى ما يرام، لما يحصلُ فيها من فسوقٍ ومنكرات، مستدلًا بحديث للنبي (ص) يقولُ فيه «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، لتسألهُ عائشة؛ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ فقال: نعم إذا ظهر الخبث؟» وهنا قد تستغلّ الحالة النفسيّة التي يمرّ بها الناس للتلاعب بالعقول، والدعوة إلى إقامة شرع الله وإقامة دولة تراعي أحكامه.
لا يكفي أن نطالب المصلّين بإجراء طقوس الوضوء في البيت، وأن نلحّ على الإمام حتى لا يطيل في الصلاة فالكلّ يعلم أنّها إجراءات تتعارض مع التعليمات الطبيّة التي تمنع تجمّع أعدادا غفيرة من الناس في فضاء مغلق حيث «التفت الساق بالساق» فإدارة الأزمات تتطلّب العقلنة والجرأة والتمييز بين القرارات السياسية والخلفيات الدينية فالدولة هي المسؤولة عن الأمن الصحيّ وتحاسب متى أخلّت بواجباتها.