الخطاب الموجّه إلى النخب السياسية وإلى كلّ التونسيين؟ وكيف يتمثّل نفسه ويتموقع؟ ولمَ يريد من الآخرين أن يتعاملوا معه على هذا الأساس؟
في آخر ظهور إعلاميّ له برّر رئيس حزب النهضة أسباب دفاعه عن عدم إقصاء حزب قلب تونس بأنّ تصنيف الأحزاب وفق معيار مدى استيعابها لقيم الثورة ووفائها للنفس الثوري غير مفيد للتونسيين بل إنّه أدّى إلى طريق مسدود «لا يوصل». ولذا وجب تصحيح رؤية «الفخفاخ» وتذكيره بأنّ ما يوحّد بين الأحزاب هو البرامج و«المصلحة الوطنية». وحاول «الغنوشي» إيهام المكلّف بتشكيل الحكومة بأنّ دفاعه عن حزب قلب تونس إنّما هو دفاع عن الوفاق والانسجام والوحدة ولمّ الشمل إذ لسنا بحاجة، حسب رأيه، إلى الإقصاء والعزل والتقسيم بل إلى الوفاق، ثمّ إنّنا لسنا بحاجة إلى «معارضة قويّة» بل إلى حكومة وفاق وطنيّ وكان المبرّر خوض تونس «حربا» ضدّ الفقر...
وحاول «الغنوشي» لفت نظر «الفخفاخ» إلى أنّ الذي يجمع اليوم بين حزب النهضة وحزب قلب تونس هو مشروع إصلاحيّ: «ضرب الفساد» و«إطعام المسكين»، وإنجاز الإصلاحات ... وعلى غير العادة برزت المرجعيّة الإسلاميّة في ردود رئيس حزب النهضة، من خلال الاستشهاد بسيرة «سيدنا عمر» وتضمين الآيات القرآنية «اختلاف الشعوب» وغيرها فضلا عن المتداول من الحكم كـ«العودة إلى الحق» وكذا كانت المرجعيّة الحزبية حاضرة إذ لم يفوّت رئيس الحركة على نفسه فرصة التذكير بتاريخ الحركة مع الأنظمة السياسية فمن اكتوى بنار الإقصاء لا يمكن أن يقصي»... ولمّا كانت «البلاد لا تتحمّل» فإنّ من مصلحة «الفخفاخ» أن يصغي إلى النصائح التي يسديها صاحب الحكمة والدراية والمعرفة بخفايا السياسيّة وأن يتبنّى رؤية من يكبر سنّا ويفوقه علما وبذلك اتّضحت الرسالة والدرس «اسمع يا ولد ونفّذ فمن دخل بيت «الغنوشي» سلم.
يتموقع «الغنوشي» اليوم باعتبار أنه «السياسي» الوحيد بعد أن رحل من كان ينافسه على إدارة المرحلة، ومن كان يقف معه على قاعدة النديّة الراحل الباجي قائد السبسي صاحب الخبرة والدهاء والدراية بخفايا الأمور، والّذي كان يتقن فنّ المناورة والتلاعب و... وفق هذا التصوّر فإنّ «الغنوشي» يرى نفسه في المركز والآخرين في الهامش، وهو لا يعتبر السياسيين الحاضرين ذوي وزن حقيقيّ، ويمكن أن يشكّلوا له تهديدا حقيقيّا.
وباعتبار خلوّ الساحة السياسية من المنافسين والخصوم القادرين على تعديل موازين القوى وفرض توجّهات ورؤى سياسية مخالفة لما يطرحه «الشيخ الرئيس» فإنّ كلّ شخصية تكلّف بتشكيل الحكومة عليها أن تقبل بهذه القاعدة التي فرضها السياق، وأن تحتكم إلى سلطة من يتمثّل نفسه صاحب الرشد بامتياز. أمّا إذا تمرّدت على أوامر الأب فإنّها تؤدّب.
يُبنى مسار تأسيس العهدة الجديدة على أساس احتكار السلطة والزعامة وتتأسّس العلاقة لا بين الأحزاب بل بين الأشخاص: بين من يرى نفسه الزعيم (مثله مثل بورقيبة) ومن حقّه أن يرسم السياسات ويفرض الوصاية ، وبين الآخرين الّذين يجب أن يصغوا ويذعنوا ويسلّموا تسليما بأنّ الوقت لم يحن بعد للتفاوض من موقع النديّة إذ يتطلّب السياق أن يتدرّبوا، ويتعلّموا، ...فهم في النهاية يجب أن يكونوا عوّالين على «الأب».
ظهور راشد الغنوشي في صورة الأب المؤسس لحركة النهضة على الدوام أمر قد أدّى إلى صراعات داخليّة وبروز أصوات تدعو إلى ضرورة «تنحّي» الأب الذي طال تحكّمه في «الأبناء» وكتم أنفاسهم... وذاك شأن خاصّ داخل الحزب لا نخوض فيه. أمّا إصرار «الغنوشي» على أن يكون أب كلّ السياسيين، وسعيه إلى انتزاع الاعتراف بأنّه أب التونسيين و«سيّد الأسياد» فإنّ له انعكاسات خطيرة إذ أنّه يعيدنا إلى «أبويّة الدولة» وهيمنة الرجل الواحد، والحزب الواحد، والرؤية الواحدة ...وتلك لعمري الطامة الكبرى.