المتروكون على هامش التحوّل الدمقراطيّ

للعنف في بلادنا أشكال متعدّدة: منها المعهود(العنف الزوجي، الجرائم، التحرّش...) ومنها المستحدث والمندرج ضمن

«الغريب والعجيب (العمليات الإرهابيّة، التحرّش الجماعيّ، التنمّر، اختراق الحسابات الفايسبوكيّة، والابتزاز الالكتروني...). وقد حاولت مختلف الجمعيّات النسائيّة ممارسة الضغط على ممثلّي الشعب في المجلس حتى يسنوّا التشريعات المناهضة للعنف. ومع ذلك ظلّت الفجوة بين التشريع والممارسة جليّة، وبقي الانطباع الحاصل لدى أغلب التونسيات والتونسيين استشراء ظاهرة العنف وارتفاع عدد ضحاياه، وصعوبة تصدّي الأجهزة الأمنيّة لكلّ الجرائم.

ولئن مثّل العنف ضدّ النساء موضوع مؤتمرات ونقاشات كثيرة وحملات توعويّة مختلفة فإنّ العنف الممارس ضدّ الأطفال لم يكن محوريّا لعدّة أسباب: منها ما يتعلّق بمنزلة الطفل في مجتمعات قائمة على ترسيخ التراتبية تضع الرجل في الصدارة وتمنحه كلّ الامتيازات وتخصّ المرأة بمنزلة أقلّ تعكس دونيّتها. أمّا الطفل فإنّ مكانه «الطبيعي» في أسفل الترتيب ولذلك ظلّت مشاكل الأطفال في مرحلة التحوّل الديمقراطي على الهامش لا تمثلّ موضوعا حريّا بأن يحتلّ حيزا في الخطاب السياسيّ وأجندات الأحزاب أو يتابعه أهل الإعلام بكلّ جديّة بعيدا عن الركض وراء «البوز». وليس اعتبار موضوع الطفولة شأنا يخصّ وزارة المرأة والطفولة إلاّ علامة دالة على تصنيف المواضيع تصنيفا جندريّا، يأخذ بعين الاعتبار توزيع الأدوار ذلك أنّ الرعاية تبقى، في نظر واضعي السياسات، مرتبطة بالنسوان وفي قطيعة مع السياسات الاستشرافية التي ترسم مستقبل تونس في الألفية القادمة.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

غير أنّ ما كشفت عنه رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي في تصريح إعلامي بتاريخ 23 جانفي 2020 مثير للفزع إذ تحوّل عدد من الأطفال الذين ولدوا في عهد «الثورة» ونشأوا في مسار وعد بتحقيق التحوّل الديمقراطي إلى ضحايا مجتمع معطوب: أجساد فتيّة تستغلّ اقتصاديا وجنسيّا وتنتهك في سبيل تحقيق مآرب الكبار. ولأنّهم يمثّلون الفئة الأكثر هشاشة فإنّهم يتحوّلون إلى رقم في المعادلة وأداة لتحقيق الكسب السريع في مجتمع يعيش أزمة أخلاقية غير مسبوقة.

المتروكون على هامش المجتمع كُثر منهم: أطفال ملّوا المعاناة النفسيّة أو الماديّة فآثروا الانتحار ، وصبيان بلا سند يطلق عليهم أطفال الشوارع، ومنهم المجنّدون في «المعسكرات» في الرقاب وفي غيرها من المدن(200معسكر) الّذين سيقوا إلى أداء الصلوات والالتزام بالشريعة قسرا، واجبروا على توفير اللّذة لأمراء وأئمة يتاجرون بالدين مادامت التجارة مربحة في زمن مأسسة الجهل، ومنهم من يُتاجر بأعضائهم لتحقيق الربح بل أدّى استفحال العصابات إلى تنظيم عمليات بيع الأجنّة في بطون الحوامل. ولا يمكن أن نتغافل عن الطفلات اللاتي يعملن صباحا مساء وتستباح طفولتهنّ وأجسادهن حتى ممن حملنّ لواء الدفاع عن الفكر النسويّ، ولا يمكن أن نغضّ الطرف عن صبيات قدّرت أسرهنّ أن لا أمل إلاّ في «الحرقة» فابتلعهنّ البحر...

أمّا الأطفال الّذين ولدوا في بلدان النزاع وظلّوا قابعين في المخيّمات أو السجون في انتظار مفاوضات متعثّرة فلا نصيب لهم من الاهتمام إذ يُدانون قبل الوصول وتلفظهم مجتمعاتهم وتصمهم بأيتام الدواعش، «جنود داعش»... وهنا يحقّ لنا أن نتساءل ما منزلة هؤلاء الأطفال في بلادنا؟ وهل يكفي أن نوقّع على الاتفاقيات والمعاهدات حتى نصنّف ضمن البلدان المتقدّمة الّتي لها تشريعات «حداثية»؟

المسألة في اعتقادنا، شائكة ومركّبة لأنّ الإفراط في الاهتمام بالشأن السياسيّ جعلنا نغفل عن تحوّلات أخرى في مجتمعنا تشمل التمثلات الخاصة بالأطفال، ومنظومة القيم، ودور المؤسسة الدينيّة، وغيرها من المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية.

إنّ مسارا انتقاليا تمحور حول الراشدين وراعى مصالح فئة منهم وجعل هموم بعض النخب وجشعها في الصدارة لا يمكن أن يعكس الواقع لأنّه يحجب تطلعات فئات أخرى هشّة منها من استطاع التعبير عن مطالبه (الشباب) ومنها من لم يمتلك حقّ الصوت فكان على هامش السياسات نسيّا منسيّا. وحريّ بالقيادات السياسية والمجتمع المدني أن يتحرّك فمن الخزي والعار أن يكون مصير الأطفال الموت الرمزي والمادي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115