لانفلات الفعل البشري من كل قيد مسبق رغم خضوعه لمحددات عديدة، ولكن في الفعل البشري حرية مفارقة وخرق لكل السببيات الميكانيكية...
لا أحد يعلم إذن ماذا سيحصل خلال هذه السنة الجديدة التي نستقبلها ولا كيف سيتصرف مختلف الفاعلين السياسيين مع مستجداتها وتحدياتها ولكن يمكننا أن نستعرض أهم التحديات الوطنية الموضوعية التي ستجابه البلاد خلال الأسابيع والأشهر القادمة وأن نستشرف من خلال ذلك بعض السيناريوهات المحتملة لتطور الأوضاع في بلادنا.
يمكن أن نقول دون كبير مجازفة أن سنة 2020 ستشهد تداخلا حادا بين الوضعية المالية للدولة مع تنامي المطلبية الاجتماعية المنظمة وغير المنظمة في اطار من التنافس السياسي بين مختلف مكونات المشهد المؤسساتي (رئاسة جمهورية - برلمان - حكومة) والحزبي خاصة داخل مجلس نواب الشعب.
«بطل» سنة 2020 لن يكون بالتأكيد أحد الرؤساء الثلاثة أو أية شخصية سياسية أخرى، «البطل» سيكون وضع المالية العمومية للدولة وخاصة في ما يتعلق بمديونيتها وبقدرتها على التحكم في الحدّ الأدنى من توازناتها المالية.
أولى أولويات الحكومة القادمة (حكومة الحبيب الجملي؟) ستكون رحلة البحث عن حوالي 12 مليار دينار لتمويل ميزانية 2020 شريطة أن تتمكن من تحقيق رقم 35 مليار دينار كموارد ذاتية للدولة، هذا لو كنا فقط في حالة التصرف اليومي للدولة ونضيف إلى ذلك صعوبة مالية وسياسية وهي انتهاء فترة القرض الممدد مع صندوق النقد الدولي في أفريل القادم مع احتمال قوي بعدم صرف القسطين الآخرين فيه ووجود حكومة الجملي (؟) دون مظلة النقد الدولي في ماي القادم ومع ما يعنيه ذلك من شروط اقتراض مشطة على الأسواق العالمية...
ولو أرادت بلادنا استمرار هذه «المظلة» التي تعطي لنا بعض الغطاء للاقتراض الخارجي لوجب الدخول في مفاوضات مضنية مع النقد الدولي منذ الأيام الأولى لعمل الحكومة القادمة مع ما يعنيه ذلك من كلفة سياسية لها أمام اتحاد الشغل من جهة والمعارضة البرلمانية من جهة أخرى بل حتى من منظومة الحكم ذاتها (رئاسة الجمهورية؟) ثم كيف سيتم تسويق هذه المفاوضات الجديدة ومن سيدافع عن الشروط التي سيضعها صندوق النقد الدولي منذ البداية؟ حركة النهضة؟ أغلبيتها «الصامتة» في البرلمان؟ الحكومة؟
يمكننا أن نقول منذ الآن أن الحكومة القادمة ستجد نفسها مجبرة على القبول بشروط الصندوق وأنها ستكون معزولة سياسيا منذ البداية جراء هذا القرار وأنه لن يكون بامكانها اللعب كثيرا على وتر «تركة» الحكومة الماضية لأن الجهة المكلفة للحكومة القادمة - هذا ما لم نذهب إلى «حكومة الرئيس - كانت لاعبا أساسيا في الحكومة السابقة...
والاشكال مع صندوق النقد الدولي غدا ليس فقط في عقد اتفاق معه من عدمه بل في رفضه المسبق لكل «الهدايا» الاجتماعية التي يمكن أن تسعف حكومة 2020 لبعض الوقت.
فأيا كانت نتيجة المشاورات الجارية الآن بين دار الضيافة وقبة باردو وقصر قرطاج وأيا كانت تشكيلة هذه الحكومة والكفاءات المتشكلة منها فالانطباع الأول الذي ستعطيه عن نفسها، مكرهة، بأنها تتصرف مع الصعوبات المالية تماما كما كانت تفعل سابقتها وقد يكون أيضا بنجاحات أقل خاصة في ما يتعلق بحجم استخلاص الموارد الذاتية للدولة (الجبائية وغير الجبائية) لتحقيق الرقم المتوقع (35 مليار دينار)...
هنالك سيناريو غريب ولكنه يبدو محتملا للغاية وهو نيل حكومة الجملي ثقة البرلمان ولكن تركها لوحدها تواجه وتجابه الصعوبات المالية الداخلية والخارجية وتبرؤ كل الأحزاب، بما في ذلك النهضة، من كل التبعات السياسية لقرارات الحكومة القادمة.. أي حياة سياسية في قطيعة شبه تامة مع الحياة الحكومية والمجازفة بحكومة الجملي في البداية ثم الاستعداد للتخلي عنها لو تجمعت ضدّها قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية وازنة...
بالتوازي مع هذا المسار الحكومي ستكون سنة 2020 صعبة جدا على المستوى السياسي لأنها ستكون سنة الاستعداد الفعلي والقوي للانتخابات القادمة وهي السنة التي سنرى فيها إن كان فعلا للرئيس قيس سعيّد مشروع سياسيا يتجاوز هذه العهدة الانتخابية ومهامه المؤسساتية. وسوف نرى أيضا هل سيقنع برئاسة بالحدّ الأدنى لا تتدخل في السير اليومي للدولة أم رئاسة قوية لا تكتفي فقط بالديبلوماسية والأمن الوطني بل تتجاوزهما إلى ارادة اعطاء توجه ما للسياسات العمومية الداخلية وذلك بترؤسه لمجالس وزارية عديدة وقيامه أيضا بعدة مبادرات تشريعية في مجالات مختلفة.
وفي هذه الحال سيحصل الاصطدام بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس مجلس نواب الشعب من جهة أخرى حول ريادة هذه العهدة الانتخابية وقيادة كامل العملية السياسية، قد لا تكون سنة 2020 حاسمة لربح الانتخابات القادمة في 2024 ولكن من سيخسر منهما نقاطا كثيرة في هذه الأشهر القادمة قد يفقد كل أمل للعب الأدوار الأولى في النصف الثاني من العشرية القادمة..
ولكن قد تستفيد أطراف أخرى من هذا الصراع الثنائي ونقصد هنا اما التحالف القائم بين التيار الديمقراطي وحركة الشعب من جهة أو الحزب الدستوري الحرّ من جهة أخرى.
تبقى الحالة الاجتماعية للبلاد هي العنصر الأساسي خلال سنة 2020 والحالة الأكثر انفلاتا من التوقع لأنها الأقل خضوعا للاعتبارات الموضوعية الصرفة، فكل تحرك اجتماعي له ولا شك دواع موضوعية ولكن ما يجعل منه تحركا ذا قدرة كبيرة على التأثير يتجاوز عادة دوافعه المباشرة ويرتبط بحالة نفسية في تلك اللحظة بالذات..
هنالك صياغة صحفية تقول دوما بأن السنة القادمة هي سنة كل التحديات، ولكن الواضح أن سنة 2020 بما هي أولى سنوات المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي ستكون محددة لما بعدها وهي اما أن تفاقم أزمات العقد الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة أو تبدأ معها بوادر الانقاذ. وحتى نكون ايجابيين نقول بأن البوادر الأولى والتحديات العميقة المتراكمة والاستعدادات الذهنية للطبقة السياسية الحاكمة، كل هذا لا يجعلنا نتفاءل كثيرا...
2020؟
- بقلم زياد كريشان
- 10:34 02/01/2020
- 2199 عدد المشاهدات
لا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيحصل لا خلال يوم ولا خلال أسبوع ولا خلال سنة لا فقط لتعقد عملية التوقع بل