كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة زمن الترويكا المحسوب علىحركة النهضة هو الشخصية التي تم ترشيحها لرئاسة الحكومة وهو ما تم بالفعل يوم أمس اذ كلف رئيس الجمهورية قيس سعيد الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة الجديدة وفق الآجال الدستورية أي شهر واحد قابل للتمديد بمثله لمرة واحدة.
هكذا اذن اختارت النهضة إما أحد أبنائها ومن «الصف العاشر» على حدّ عبارة رئيسها راشد الغنوشي أو أحد أصدقائها..
ما هي دلالة هذا الترشيح؟ وكيف تتصور حركة النهضة حوكمة البلاد وما هي التحالفات التي ستلجأ إليها الحركة الاسلامية لضمان نيل حكومة الجملي الثقة أمام مجلس نواب الشعب؟
قرار حركة النهضة يتضمن رسائل عدة للداخل النهضوي ولكل الأطراف الشريكة أو المنافسة أو المناوئة لها ومفادها جميعا أن الحركة الاسلامية قد اختارت سياسة المرور بقوة وفرض الأمر الواقع بحجة فصل المسار التشريعي عن الحكومي أولا وبأحقيتها في ترؤس السلطتين التشريعية والتنفيذية ثانيا وأنها هي التي تفرض شروط المفاوضات و«حصص» كل الأطراف مادامت متأكدة من أن سياسة تحالفاتها المتعددة والمتنوعة ستسمح لحكومتها بنيل الثقة تماما كما تمكن رئيسها من الفوز برئاسة البرلمان..
كل الأطراف السياسية والاجتماعية الوازنة طالبت حركة النهضة بتحييد القصبة وتكليف شخصية مستقلة ذات كفاءة عالية وخلفية اقتصادية قوية ولكن قيادة حركة النهضة فضلت في الأخير الحلّ الأسهل بالنسبة لها وهو شخصية نهضوية من الصفوف الثواني أو قريبة منها غير قادرة على منافسة القيادة التاريخية للحركة متعظة في ذلك بدرس الثنائي الباجي قائد السبسي ويوسف الشاهد، شخصية لا تنافس القيادة وليست قادرة كذلك على فرض أسلوبها واختياراتها على رئيس الحركة، أو على الأقل كان هذا هو التقدير الأولي لحركة النهضة وليقياداتها.
سياسة المرور بقوة التي أرادها مجلس شورى حركة النهضة وقبل بها رئيسها مفادها قلب الطاولة على الشركاء المفترضين كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب وكذلك عدم الانصات إلى أهم شريكين لكل حكومة وهما الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والذين اعترضا على تسمية شخصية نهضوية على رأس الحكومة.
صحيح أن حركة النهضة تقدم السيد الحبيب الجملي كشخصية مستقلة تعاملت فقط مع حركة النهضة على مستوى الخبرة الاقتصادية خلال حكم الترويكا وقبلها كذلك ولكن هذا التسويق صعب إلى حدّ ما لأننا لسنا أمام شخصية معروفة بصفة مستقلة عن تجربتها في الحكم...
لا شك أيضا أن رئيس الحكومة المكلف سيسعى في البداية إلى الانصات لمختلف الأحزاب وخاصة ما يسمى بأحزاب «الخط الثوري» أي التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه الأحزاب الثلاثة مع حركة النهضة لا تزن مجتمعة سوى 110 نائبا وهي أغلبية هشة للغاية ورغبة البعض هو أن تلتحق كتلة تحيا تونس ونوابها الأربعة عشر بمعية ثلثي كتلة الاصلاح الوطني للوصول إلى أغلبية مريحة إلى حدّ ما تتجاوز 130 نائبا..
ولكن هل سيجد رئيس الحكومة المكلف التوافقات الضرورية مع كل هذه المكونات حول مختلف الحقائب الوزارية والسياسات العمومية العاجلة؟ أي هل ستتمكن حكومة نهضوية تيارية شعبية (نسبة إلى حركة الشعب) تحياوية كرامية من الصمود أمام القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي ستضطر إليها حكومة الحبيب الجملي؟
هذا مع العلم أن من سيقود المفاوضات الفعلية سيكون بالأساس راشد الغنوشي رئيس النهضة ورئيس البرلمان وأن التصورات الاستراتيجية للتحالفات السياسية ستدار من باردو لا من القصبة (أو بالأحرى دار الضيافة) وفي الحقيقة لا يْستبعد بالمرة أن تلجأ الحركة الاسلامية إلى نفس التحالف الذي خوّل لرئيسها ومؤسسها رئاسة البرلمان أي اتفاق بهندسة متموجة مع قلب تونس وائتلاف الكرامة وثلثي كتلة الاصلاح وجملة من المتحزبين والمستقلين بما يعطيها أغلبية قريبة من الأغلبية التي فاز بها الغنوشي برئاسة المجلس (123 نائبا)..
«الفائدة» في تحالف كهذا هو أن يكون أقل ازعاجا وأكثر استقرارا لأنه سيسلم لحركة النهضة الحكم بالكامل مقابل بعض امتيازات الحكم البسيطة فقط لا غير على عكس الشروط والاحترازات التي ستكون باستمرار عند التيار الديمقراطي وحركة الشعب..
لا مناص من الاعتراف بأن حركة النهضة قد أتقنت فن التفاوض والمناورة مع الجميع اذ هي دون خمس الأصوات المصرح بها في التشريعية بصدد التحكم الكامل في السلطة التشريعية وفيما هو أساسي في السلطة التنفيذية، وقد أثبتت سياسة المرور بقوة النهضوية نجاحاتها إلى حدّ الآن ولكن يوجد فرق بين مناورات تشكيل رئاسة البرلمان والحكومة وبين النجاح الفعلي اقتصاديا واجتماعيا..
على كل حال النهضة تحكم اليوم بالكامل وهي ستتحمل بالكامل نتائج الحكم كذلك..
صفحة جديدة من تاريخ تونس المعاصر فتحت يوم أمس...