وهي تدخلات تسمح بالتعرّف على ملامح النائب المحتمل: اسمه وسنّه وهيأته وطريقة كلامه ومستوى إدراكه للشأن السياسيّ والعامّ... وبصرف النظر عن الاختلاف الواضح بين المترشّحين القدامى والمترشّحين الجدد، والمستوى الثقافي، والارتباك أمام الكاميرا من عدمه فإنّ التدخلات السريعة والمقتضبة توفّر مادة لا بأس بها لتقييم أداء هؤلاء الذين سيكون لهم دور في نحت صورة المجلس التشريعي القادم.
وينتبه المتأمل في طرق تعريف المترشحين/ات ببرامجهم وما ينوون القيام به في صورة فوزهم إلى مجموعة من الثغرات: أوّلا في مستوى فهم مهمّة النائب والدور الموكول إليه، وثانيا في تصوّر العمل داخل هذا الفضاء الذي يقتضي بالضرورة مراعاة موازين القوى المتحرّكة باستمرار، وعقد الائتلافات وغيرها.
فأغلب المتدّخلين يُشعرونك بأن لا دراية لهم بالاكراهات التي تُسيّج فعل النائب/ة ولا صلة لهم بالواقع المعيش المعقّد، والذي بات لا يحتمل مزيد إيهام المواطنين بأنّ «تحويل صفاقس الشمالية إلى ولاية وإعادة المستثمرين إلى المنطقة، وتحويلها إلى جنّة سياحية ممكن»، وهو وضع لا يمكن أن يتحمّل «تخصيص مشاريع للتشغيل والنهوض بالقطاع الفلاحي والصحيّ، والتعليمي...» فإلى متى يستمرّ المقبلون على العمل البرلماني في لعبة الإيهام بأنّهم يملكون بالفعل العصا السحريّة أو مصباح علاء الدين؟
أمّا ثالث هنة فتتصل بالقدرات التواصلية ، فعدد كبير من المترشحين/ات لا يعرفون فنّ التواصل مع الآخرين ومقتضيات البلاغة. فقد بدا لفئة منهم أنّ المُلحة مطلوبة لإغراء الجمهور فبات يقول «يا راكم كيف الرمانة من برة مليانة ومن داخل حلوة ومزيانة»، وظنّ البعض الآخر أنّ الإبداع هو في السجع: «يا لندرا ما زال عندنا صيودة ورجالنا موجودة ولا شباب الفايسبوك رقودة»، 'إنني أكذب في وطن يكذب، «الحمد لربّ مقتدر ... واللعنة نهديها طرّا للقلب المتحجّر». فهل المقام مقام عرض الذات وما تتميّز به من مهارات في السجع، والخطاب الإنشائي...
وتكمن رابع هنة في العمل على ترسيخ التمثلات الاجتماعية. فهمّ أحد المترشّحين «القضاء على العنوسة، والحدّ من نسب الطلاق» وغاية منى مترشحة هي أن تعرّف نفسها بأنّها «مرت فلان» وأمّ لولدين' مكرّسة تبعيّة المرأة للرجل حتى في مجال الفعل السياسيّ مثبتة أنّ الأمومة أفضل مطيّة لضمان كسب الثقة في مقابل ترشّح العزباء، أو المطلقة أو الأرملة ،...
ولا يمكن أن نتغافل عن عدم وعي أغلب الذين أعادوا الترشح بالدروس المستخلصة من تجربة الانتخابات الرئاسية إذ لم يفهم هؤلاء أنّ الجماهير ملّت الوجوه «القديمة» ولم تعد ترى فيها إلاّ وجوها مصابة بداء النرجسية. فهي تتصوّر أنّ منصب النائب هو الذي سيمكّنها من استكمال حلمها الشخصيّ، وهي ترى أنّها قادرة بالفعل على مزيد العطاء دون أن تكلّف نفسها بالقيام بالمراجعات وتعمل على نبذ احتكار أي موقع. فمن فضائل الممارسات الديمقراطية منح الآخرين الفرصة للتدرّب على العمل النيابي، والإيمان بالتداول على المناصب.
ولا نرى أنّ هذا الأداء المختلّ والمحدود قابل للإصلاح من خلال الدورات التدريبية والخبرة التي ستتوفر في مسار العمل السياسي ذلك أنّ عدم تفعيل مبدإ المساءلة المشفوع بالمحاسبة قد أفضى إلى استسهال العمل البرلماني واعتباره مجرد وسيلة للارتقاء الاجتماعي وتغيير الموقع وتحقيق الامتيازات المادية فضلا عن تحصيل مكسب الحصانة . وطالما أنّ تمثلنا للعمل البرلماني تقليديّ يؤثر خدمة الذات والعائلة والعشيرة والحزب على خدمة الشعب فإنّ الشخصيات الحاضرة في مجلس نواب الشعب طيلة هذه السنوات عجزت عن أن تتحوّل إلى أنموذج /قدوة قادرة على التأثير والارتقاء بالنقاش ولذا فإنّ العمل على تغيير أداء النائب لم يتبلور في ذهن الوافدين الجدد من المترشحين إذ ظلّ أغلب هؤلاء محكومين بمنطق القبيلة/الغنيمة.
وبما أنّ التدخلات المقتضبة والمواجهات التلفزية عرّت هذا الواقع فإنّنا نتوقّع أنّ المشهد البرلمانيّ سيكون هجينا وستهيمن فيه خطابات تنهل من بنية «الغريب - والعجيب» قد نستطرفها فنضحك ونسخر ولكن يبقى طعمها طعم مرارة الحنظل.